راهن الشعر الموريتاني الحديث بقلم الدكتور الشيخ ولد سيدي عبد الله
يواجه أي باحث في الشعر الموريتاني الحديث مشكلة في تصنيف هذا الشعر وتقسيمه إلى مدارس واتجاهات على غرار ما يحدث معالشعريات العربية المماثلة. فقد مارست القصيدة الكلاسيكية التقليدية سلطتها على التلقي والإبداع في موريتانيا ردحًا طويلًا من الزمن،فغطت بذلك غابة الإبداع الشعري، بحيث لم تترك أي مجال للأجناس الأدبية الأخرى، وكذا الأشكال الشعرية اللاحقة للظهور، فقد ظلالشعر العمودي مستحوذًا على الذائقة الأدبية الموريتانية، وربما لا يزال حاضرًا بمستوى لا يستهان به من القوة والتأثير.
ويعود السبب في ذلك إلى البنية التكوينية للثقافة الموريتانية، التي ظلت إلى وقت قريب، ثقافة شفهية، في بعض مناحيها، «محظرية» فيمناحي أخرى، وقد اهتمت في تأسيسها على الثقافة التراثية، سواء منها الدينية أو الأدبية، فكانت «المحظرة» بشكلها المحافظ أكبر فاعلفي تحديد العلاقة بين المبدع والمتلقي، وهذا ما نلحظه في قراءة سريعة لحياة الشعراء الموريتانيين الكبار ومشاربهم الثقافية، ومعاصريهممن متلقي الشعر ومتذوقيه.
حين أنشئت جامعة نواكشوط في ثمانينيات القرن العشرين، وعاد أبناء البلد من رحلتهم العلمية التي قادتهم إلى جامعات مشرقية ومغربيةوأوربية، بدأ التفكير النقدي يتبلور حول كثير من القضايا الشعرية، وفي مقدمتها قضية الأصالة والمعاصرة. وفي مقابل هذه المواقف، قامتمعركة الشعر الجديد بمحاولة خلق ذائقة غير تقليدية، قادرة على فهم حركة الزمن والإبداع، متدثرة بثقافة جديدة، تمكنها من التعامل معالرموز الشعرية وما تحيل إليه من دلالات. وهي محاولة جسورة في ميدان يسيطر عليه المحافظون بشعرهم وبخلفيتهم التراثية، التي سيجتالإبداع بمتاريس من التقديس، تجعل تجاوزه مسألة في غاية الصعوبة. والحقيقة أن اعتماد وسيط أو رقيب تقليدي بين الشاعر والمتلقي، هوالسبب في إحداث الهوة بين الواقع والإبداع؛ ذلك أن الرقيب التقليدي المحافظ يسعى إلى فرض قوالب نصية، ومعجم لغوي خاص، بحيثيرى أي خروج عليه كفرًا إبداعيًّا وعقوقًا ظاهرًا, وهذه الوصاية هي السبب في انفجار الثورة، من طرف بعض الشعراء الذين عرفوا بالولاءللقالب التقليدي نفسه. فهؤلاء الشعراء لا يرون المشكلة بين دعاة التجديد والمحافظين مشكلة شكلية، إنما هي لغوية، تعبيرية.
يقول الشاعر فاضل أمين: «إن سجن الأديب وراء جدار سميك من اللغة حكاية قديمة مجها الأدب المعاصر؛ ذلك أن الناس هم الذين يملكونحق إعدام الكلمة أو خلقها، والشاعر ليس بوابًا في المجمع اللغوي، وليس موظفًا عند الخليل والأصمعي، إنه هو الذي يخلق لغته، وعليه أنيترصد لغة الجمهور الذي يكتب له»(1). وهذا ما عبرت عنه النقاشات التي فجرتها قصيدة «السفين» للشاعر أحمدو ولد عبدالقادر عام1984م، التي كانت «مؤطرة بالبحث عن الشعر الجديد، وما يطرحه من قضايا، وكانت الاختلافات بين المتخالفين أو المتكاتبين، اختلافاتفي التصور النقدي، الذي ينطلق منه كل فريق، والخلفية الفكرية التي تحكم هذا التصور»(2).
ويرى الدكتور محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم أن أهم نقاش عرفته قضية «الشعر الجديد» في موريتانيا هو ذلك الذي حدث عام 1986موالذي لم يكن «وليد نص إبداعي، كما هو الشأن بالنسبة لحوار 1984م، إنما وليد طرح نقدي، يصطدم مع طرح آخر مخالف له فيالتصور، ومعزز بخرق جمهور لم يتعود بعد على أساليب الشعر الحديث، وجماليات تقبله»(3).
الوعي بالحداثة
والحق أنه على رغم سيطرة الذائقة التقليدية على العملية الإبداعية الموريتانية، وعلى رغم سلطتها القاسية التي تفرضها على الشاعر، فإناتساعًا صامتًا لدائرة الشعر الحديث والمهتمين به، كان يحدث من دون علم المحافظين. فقد مكنت المناهج الأدبية الحديثة في الجامعة،وانفتاح جيل الشعراء الشباب على نتاج نظرائهم العرب، وتعرف المبتعثين من الطلاب الموريتانيين إلى الجامعات العربية على النظرياتالنقدية الجديدة، وعلى الشعر الجديد، من إماطة اللثام عن الشعر الجديد، ودفعه إلى المزاحمة العلنية للشعر التقليدي وحرّاسه.
لقد صاحب هذه الثورة، فهم جديد لكثير من القضايا الشعرية، التي أصبحت هي الأخرى بحاجة إلى نوع من التغيير والإدراك، حتىتؤسس الدعامة الكبرى لاستمرار الإبداع الشعري الجديد، ولهذا جاء فهم الأصالة والمعاصرة من طرف جيل الحداثة، فهمًا مغايرًا للجيلالمحافظ؛ بل إن وعيًا ثوريًّا بالحداثة بدأ يكشف عن نفسه، في التعامل مع الشعر ومع الثابت والمقدس في الثقافة الوطنية. يقول الدكتور سيدالأمين ولد سيد أحمد بناصر: «يشهد الشعر الموريتاني قطيعة حاسمة وجذرية بين تيارين شعريين؛ الأول تيار التقليد، وينحو منحىكلاسيكيًّا تقريريًّا، بشكل يجعله معزولًا تمامًا عن الإبداع العالمي والعربي، وأما التيار الثاني فهو تيار الحداثة الذي ما فتئ يبحث عنمتنفس للقصيدة، ينقلها من واقعها التقليدي إلى آلياتها المعاصرة (…) وأظنني من الجيل الذي يحاولفك العزلة وغلق باب التجمد، هذا التيارفي نظري هو القادر على مسايرة ركب الحداثة العربية، وعلى عاتقه تلقى مهمة النهوض بالشعر في هذه البلاد»(4).
إن آراء المؤيدين للحداثة من هذا الجيل، تنبثق أساسًا من الفهم الفني للنص الشعري الحديث، في مسايرة للظرف الزمني للإنسانالموريتاني وعلاقته بالآخر، شكلًا ومضمونًا، إبداعًا وتنظيرًا، لهذا فليست الحداثة لهم انبتاتًا مطلقًا من التراث، إنما هي محاولة لفتح حصونذلك التراث، وفك متاريسه المنغلقة أمام الحداثة؛ ليكون هناك تكامل بين الأصالة والمعاصرة، وهذا ما جعل بعض الحداثيين الموريتانيينيستخدم الشكل التقليدي للقصيدة؛ ليبدع من خلاله نصًّا حداثيًّا، موغلًا في التكثيف والتفجير الدلالي.
أما الشاعر ببهاء ولد بديوه فيرفض الرأي القائل بأن الحداثة نبذ للتقاليد، وأنها ثورة شاملة على التراث، وينطلق من أسس فنية تربط الشعرالحداثي بالشعر التقليدي؛ إذ يقول: «إذا كان هذا هو مفهوم الحداثة فليس ثمة من شعر حداثي، لا في الشعر الموريتاني، ولا في الكثيرمما يسمى شعرًا عربيًّا حداثيًّا؛ إذ إن هذا الشعر سواء كان في موريتانيا أو غيرها من البلدان العربية، لا يخرج عن تقليد أخذ يتأسسابتداء من الخمسينيات، وله جذوره الممتدة، مثل شعر «البند» الذي عرف انتشارًا واسعًا في العراق منذ القرن العاشر الهجري، ومن ثم فإنهذا الشعر الحداثي، لم ينبذ تقاليد الشعر العربي القديم، وإنما حاول تكييفها لتتلاءم مع التحولات الجذرية، التي يعرفها العالم»(5).
ونتيجة لهذا تأكد ارتباط النص الحداثي بأصله القديم، ولكن هذا الارتباط لم يكن عائقًا في سبيل تغيير بعض الأشكال والمفاهيم التيتحققت على يد شعراء الحداثة، وهي تغييرات لا يستبعد أن تكون لها جذور في التراث، يقول ببهاء: «الحداثة العربية الشعرية، ثورة فيالشكل والمضمون، لها امتدادها المترسخ الجذور في التراث، وخاصة في جوانبه الثورية، فمن ناحية الإيقاع فإن هذا الشعر بدأ يؤسس منذالسياب تشكيلًا إيقاعيًّا، يحاول التحرر من البيت باتجاه الدائرة؛ فالقصائد الأولى التي ظهرت من هذا الشعر غير ملتزمة بعدد من الأجزاء(المفاعيل)، ولا بقافية موحدة أو غير موحدة، ولكن مرور الزمن أظهر أن هناك تطورًا مستمرًّا في الإيقاع، حيث صار لبعض القصائد التيهي أكثر جدة، وحدة إيقاعية من بدايتها حتى نهايتها، كما حاول هذا الشعر أن يجعل القصيدة تتحرك بحرية، بدل أن تظل محصورة فيأغراض محدودة، وهو ما نتج عنه تطور كبير في معجم هذا الشعر.. »(6).
والحداثة من هذا المنظور مرحلة تطورية للشعر التقليدي، من حيث الإيقاع واللغة، وعلاقتها بشعر التقليد هي علاقة (محاورة)، فهي تنطلقمن القديم، لتتجاوزه، مع بقاء صلاتها به وثيقة. وغير بعيد من هذا الرأي يتبنى الشاعر الدكتور إدي ولد آدب مقولة للشاعر الإنجليزي إليوت؛إذ يقول: «إن الجديد كل الجدة رديء كل الرداءة» وهو بذلك يريد أن يقول: إن الحداثة لا يمكن أن تكون انقطاعًا ولا انفصالًا عن الجذور،وذلك لأن الانقطاع عن التقاليد الأدبية، لا ينتج عنه إلا غياب القيم، التي بها ننظر إلى ما نبدعه من قيم جديدة، فهل يمكن لغياب القيم أنيكون قيمة في حد ذاته؟»(7). ويرى أن دعاة الانقطاع عن الجذور مصابون «بنوع من التطرف الحداثي» سواء في ذلك الشعراء والنقاد.
التطرف الحداثي
أما الشاعر الدكتور بدي ولد ابنو فكأنه في رأيه حول الفهم الخاطئ للحداثة، يرد على رأي إسلم ولد بيه المذكور آنفًا، وذلك في معرض حديثهعن العلاقة بين الشكل التقليدي والشكل الحداثي للنص الشعري المعاصر. يقول الدكتور بدي: الحداثة نظر إليها طويلًا في المشرق على أنهاطريقة جديدة في إعادة توزيع الكلمات هندسيًّا على الورقة، والأمر أحيانًا يصل إلى درجة بالغة السطحية، يكفي عند البعض أن يحذف منالقصيدة رويها، وأن يعاد توزيعها لتصبح قصيدة حديثة؛ فعند نقاد معاصرين يعني مصطلح «القصيدة الحديثة» كل قصيدة لا عمودية،حتى لو كانت عمودية فعلًا، ولكن توزيعها على الأسطر لا يوحي بذلك لأول نظرة، وبهذا المعنى لا يصبح الإبداع إلا لعبة شد وتمطيط»(8).
ويتفق الشاعر بدي مع الشاعر سيد الأمين حول الحداثة الشكلية؛ فالقالب ليس معيارًا للجدة أو التقليد. يقول: «ما يهمني هو الشعر». الشعر أولًا. للقصيدة أن تكون عمودية أو شعر تفعيلة أو خارج الإطارين، ولكن أن تكون قصيدة «إبداعًا»، ثمة قصائد تفعيلة وقصائدتسمي نفسها (نثرية) بالغة التقليدية، وثمة قصائد عمودية بالغة الحداثة، القصيدة كل متكامل والحكم عليها لا يمكن أن يكون جزئيًّا، تكونالقصيدة في نظري حديثة حين تكون إبداعًا، وأول ما يجعلها كذلك أن لا تفرض عليها أفكار خارجة قبلية، لمجرد أن الرأي السائد يفضلإطارًا معينًا(9). ويرفض أن ينتمي لتيار الحداثة، الذي سيطر عليه كثير من الأدعياء، فاستولوا على اللفظ «حداثة» لا على المعنى؛ لذلكفهو ينتمي إلى ما سماه الحداثة الأخرى: «أنتمي إلى ما بعد الحداثة، أنتمي إليها زمنيًّا؛ لأن ما بعد الحداثة راجت في سنوات الثمانينياتالتي بدأت أنشر فيها».
وفي محاولة منه للتنظير لمفهوم «الحداثة الأخرى» يقول: الحداثة الشعرية العربية، أي تجلي الإبداع الشعري زمنيًّا، تم خنقها منذ مايسمى بعصر النهضة، ولذلك أعتقد أن حداثة ستبدأ اليوم نسميها الحداثة الأخرى»(10). أما الشاعر أحمدو ولد عبدالقادر، فها هو بعدمرور سبعة عشر عامًا على كتابته قصيدة «السفين» والنقاش الذي أثارته، يرى أن فهم الحداثة الشعرية رهين بشموليتها لكل مناحيالحياة، وهو رأي في نظرية التلقي؛ ذلك أن «الحداثة عندنا تكاد تكون قاصرة على الإنتاج الشعري، مما جعل الشعر في وادٍ والحياة فيواد، ولكي يكون الشعر الحداثي مفهومًا، متقبلًا، لا بد أن تكون الحداثة شاملة لجميع مجالات الحياة، وأن تكون الفنون مواكبة للشعر فياتجاهه الحداثي، حتى يكون لهذه الحداثة إطارها وسياقها الذي لا يمكن أن يكون لها إلا به»(11).
وفي محاضرته عن «الخطاب الشعري الحداثي في موريتانيا»(12) التي ألقاها في «بيت الشعر»(13) يوم الثلاثاء 8 إبريل 2001ميدرس الدكتور المختار ولد الجيلاني، التحول الإبداعي للشعر الموريتاني، من خلال سبعة دواوين شعرية لخمسة شعراء من جيل الشباب،وهي في نظرنا أهم دراسة أكاديمية(14) آنذاك، تجاسرت على تحليل الجماليات النصية للقصيدة الحداثية في موريتانيا، وهذا سر تركيزناعليها. ففيها يمايز مفهوم الخطاب «الذي يتلاءم أكثر مع الشعر الحداثي، حيث يتخلق النص الشعري مجراه كما النهر، دون أن يكونللتقاليد الشعرية السابقة أثر في توجيه هذا المجرى، من مفهوم القصيدة «الذي يتلاءم مع النص الشعري التقليدي لاشتقاقه من القصد». ومن هذا التحديد يحاول إبراز مدى مطابقة هذه المفاهيم -ولو جزئيًّا- مع الشعر الحديث في موريتانيا انطلاقًا من خمسة نصوص وردت فيالدواوين السبعة المذكورة آنفًا وهي:
دموع غيلان لسيد الأمين بن سيد أحمد بناصر(15)