أمين معلوف و"إخوتنا الغرباء".. قراءة بين السطور
أيام وليال قضيتها وأنا أتأمل كلمات أمين معلوف في روايته الأخيرة "إخوتنا الغرباء"، أعدت قراءتها أكثر من مرة محاولاً الغوص في عمق المعنى الذي أراده المؤلف عبر روايةٍ جاءت تحذر من كارثة قد تفني الجنس البشري والإشارة إلى حلول مقترحة..
لقد استيقظ سكان الأرض على انقطاع الكهرباء وتعطل البث الإذاعي وانقطاع الاتصالات الأرضية والإنترنت.
يقول ألكسندر "أعتقد أن مأساة حلت، لا كارثة طبيعية، بل كارثة عنيفة من صنع الإنسان، الخطأ الشنيع الأخير لجنسنا البشري، والذي سيختتم بضعة آلاف من السنين من تاريخنا، وسيسدل الستارة الأخيرة على حضارتنا الجليلة، وسيودي بنا جميعا إلى التهلكة".
أما إيف فترى أنه أخيرا حلت الكوارث النووية، وأن "البشر نالوا العقاب الذي يستحقون".
"ألك" رسام كاريكاتير في منتصف العمر، و"إيف" روائية حظيت بشهرة عابرة لروايتها التي حققت نجاحا باهرا، وهما يعيشان فوق جزيرة صغيرة يتقاسمان ملكها على ساحل المحيط الأطلسي.
لم يكن أحدهما يخالط الآخر حتى ذلك اليوم الذي أصاب فيه عطل غير مفهوم جميع وسائل الاتصالات، مما أرغمهما على الخروج من العزلة التي يحرص كل منهما عليها أشد الحرص.
ما سبب هذا الانقطاع في الاتصالات؟ هل تعرض الكوكب إلى كارثة أم إلى نزاع نووي؟ هل هما الناجيان الوحيدان؟
ماذا حدث؟
بعد الانفجار الذي حدث في ولاية ميريلاند وقتل أكثر من 600 شخص وأصيب الآلاف بجروح أو تعرضوا للتلوث ثار قلق وهلع شديدان ورزحت البشرية جمعاء تحت هول الصدمة تائهة مذهولة.
ولاحت نذر حرب عالمية في الأفق بعد الخطابات "المتشدقة التي ألقاها الحاكم المستبد القوقازي المشير سارداروف، وفسرت على أنها إقرار بالذنب".
قرر الرئيس الأميركي جمع السلاح النووي من كل الدول وبكافة الوسائل في عملية تطهير للأرض من ذلك السلاح.
تعنت سارداروف، وقال "لقد قبل الاتحاد السوفياتي بالهزيمة دون أن يجرؤ على استعمال أسلحته، أما أنا فلن يحصلوا على صواريخي سليمة، سأفجرها كلها، ولن يحصل ذلك لا في الصحراء ولا في البحر".
تدخل القادة العسكريون الأميركيون لدى الرئيس الأميركي هوارد ميلتون، ونصحوه بتوجيه ضربة فورية، وألحّوا عليه أن يعطيهم موافقته دون إبطاء.
عبر الهاتف أمر ميلتون أخيرا قواته بالانطلاق "أعطي موافقتي، يمكنكم الانطلاق"، لكن الأمر لم يصل، تعطل هاتف وزير الدفاع وتعطلت كل الهواتف، لقد انقطعت كل الاتصالات وتوقف البث وانقطع الإنترنت، لقد تغير وجه الأرض.
تدخل الإخوة
لقد تدخل "إخوتنا غير المنتظرين"، "فلن تعود الأمور كما كانت من ذي قبل، لا البشرية ولا كوكب الأرض ولا التاريخ ولا حياتنا اليومية".
يتحدث أمين معلوف في روايته "إخوتنا الغرباء" أو بالأحرى "إخوتنا غير المتوقعين" -وهي الترجمة الأفضل للعنوان- عن ظهور "أصدقاء إمبيدوقليس" في وقت بدا فيه أن حضارتنا قد أفلست "ما عادت تفعل هذه الحضارة إلا أن تقود عربتنا رأسا نحو الفناء".
إمبيدوقليس من رموز الحضارة اليونانية، الساعي إلى خلاص البشرية بالحب وقوة التوحيد والتماسك، بعكس الكراهية أو النزاع الذي يفرق ويدمر، وهذا هو المغزى الأخلاقي من هذه الرواية.
جاء الإخوة غير المتوقعين طوق نجاة لنزع الأسلحة النووية وجاؤوا أملا للبشرية بعلومهم المتقدمة وطبهم الذي يتجاوز طبنا الحديث بمراحل كبيرة، وقد عرضوا "الشفاء" على الرئيس الأميركي الذي يعاني سرطان الرئة في مراحله الأخيرة، وقد قبل دواءهم بعد إلحاح من زوجته وشعبه.
وبقدر ما كان وجودهم أملا للكثيرين كان مجيئهم إيذانا بانهيار حضارتنا، وأدى بها -رغم علومهم وقدراتهم- إلى أن تتقادم بين عشية وضحاها، وبتحولنا إلى شعوب بدائية لا حول لها ولا قوة أمام مستعمر قوي.
كان مجيئهم أيضا شوكة في حلق العسكريين وأمراء الحرب الذين لا مبرر لوجودهم إلا بالحروب المتواصلة، فشنت مجموعة منهم هجوما على الوافدين أدى بهم إلى الانسحاب.
انتفضت الشعوب مطالبة بعودة "الأسياد" الجدد، "إنها ثورة غريبة تسير قدما، أوسع الثورات نطاقا وأكثرها هدوءا وأشدها مقاومة للهزيمة"، ثورة ضد المرض، ثورة البقاء، ثورة الحياة على الموت "كيف بحق الله سنعود إلى حقبة، الغلبة فيها للمرض والموت؟" ص 317.
فجاءت رسالتهم أنهم يريدون العودة، وأنهم ينتظرون العودة، لكن شرطهم الوحيد أن تتحد جميع الأمم والشعوب وتتخلى عن حروبها الطاحنة.
وعندما تسأل ربيبة ألكسندر عما يجب على البشر أن يفعلوا يأتيها الجواب من إيف المتحمسة الأولى للجماعة "أن نصبح راشدين"، "ذلك هو شرطهم للعودة".
جوهر طلبهم أن تتحد شعوب الأرض ويصير عدوها الوحيد هو الموت "هل أنتم على استعداد لاعتبار الموت عدوكم الوحيد؟ أجل، الموت، الموت وحده، لا القوى العظمى الغريمة، لا الشعوب الأخرى، لا الأعراق الأخرى، لا نحن، الموت فحسب" ص 320.
"لا تنسوا أبدا أن أصدقاءكم هنا يتأملونكم وينتظرونكم" ص 321
نفق الشفاء وحلم البقاء
عندما وصلت أولى سفن "الإخوة" لعلاج بعض المرضى، وبدأت بشائر الشفاء تتجلى على أجساد المرضى "بدأ الناس يقسمون أغلظ الأيمان بأن "النفق" سيخلصهم إلى الأبد من النقرس وتشمع الكبد والفشل الكلوي والأورام السرطانية".
وتسرد الرواية على لسان بطلها ما يأتي ".. وتشير كل الدلائل إلى أن طب "الأوصياء علينا" يرمم بالأحرى ولا يعالج، أليس ذلك وفي جميع الأزمنة حلم البشر الفانين أمثالنا؟".
يقول مورو مستشار الرئيس الأميركي لصديقه الرسام ألكسندر "فإذا اقتنع أبناء وطني بوجود آلة يكفي أن يدخلوها للخروج منها من الطرف الآخر بعد 3 دقائق وقد أبلّوا من جميع أمراضهم، الله وحده أعلم بما قد يحصل، ستكون نهاية العالم، وأنا أزن كل كلمة أقولها".
خطر يهدد حضارتنا المتهالكة
وتعليقا على إمكانية قبول الرئيس الأميركي علاج "الإخوة" من سرطان الرئة الذي يعاني منه، يقول مورو "غدا سيجثو جميع أبناء قومنا تقريبا عند أقدام هؤلاء القوم، وسيفرحون لمخاطبتهم باسم "الأسياد، حضارتنا على شفير الموت، وبإمكانك بالفعل نقش شاهدة قبرها" ص229.
أما أغاممنون -وهو من أصدقاء إمبيدوقليس- فرؤيته مطابقة لرؤية مورو، ويرى في العلاج خطرا على حضارة بني قومه، حضارة الإخوة، يقول مخاطبا ألكسندر "سيتطلب علاج مرضاكم قرونا بحالها، أتقترح أن نبقى هنا إلى الأبد؟" ص 219.
"إنها دوامة، وهذه المرة إلى الأبد، ستتمازج شعوبنا وسيتداخل عالمنا وعالمكم إلى غير رجعة، وستضمحل حضارتكم، وستصبح حضارتنا ممسوخة" ص 220.
"لقد تدخلنا للحيلولة دون وقوع الإبادة، لا لأي سبب آخر، وأي بادرة إضافية ستسمم حياتكم وحياتنا، وإلى الأبد، أجل إلى أبد الدهر" ص 222.
يقول بطل الرواية "إن ما يجري ليس سوى احتضار العالم القديم"، "سيقول المؤرخون الذين سينكبون غدا على دراسة حضارتنا إنه كان يكفي أن تسدد خبطة إليها لشدة ما أصابها من العفن لكي تنهار" ص 303.
"إننا أصبحنا أنا وأمثالي بشرية عفا عليها الزمن،
محكومة بالفناء الثقافي والمعنوي" ص 182
السكان الأصليون.. نحن وهم
يشير أمين معلوف في روايته كثيرا إلى شعب الأزتيك والسكان الأصليين والفاتحين الإسبان، ويشبه اليوم بالأمس ويقارن حالنا بالسكان الأصليين، فيما يرى أن الإخوة يمثلون الفاتحين.
يقول على لسان بطل روايته "إن الاضطرابات الراهنة تذكرني بالضبط بزمن الفاتحين الإسبان وشعوب الأزتيك أو الإينكا، فما شهدته تلك الشعوب يتجلى أمام أنظارنا بالنسبة إلى مجمل المجتمعات البشرية: تبخيس مفاجئ لمعارفنا ولرؤيتنا للعالم وهويتنا ومكانتنا" ص 271.
إشارة إلى كورونا وأوكرانيا
في الصفحة 255 تسرد الرواية ما يأتي على لسان أغاممنون مخاطبا إيف "تخيلي على سبيل المثال أن ينتشر فيروس قاتل بسرعة فائقة ولا يدل عليه أي عارض قبل انقضاء عدة أسابيع".
"في اليوم الذي يكتشف وجوده سيكون قد فات الأوان، ولن يستطيع أحد أن يوقف انتشاره، لا الطب عندكم، ولا الطب عندنا، وسيحكم على شعوب بأكملها من دون أمل بالشفاء، وبعضهم يعتزم تصنيعه".
ومن المفارقة أن أمين معلوف يقول في إحدى المقابلات التلفزيونية إن هذه الرواية قد كتبها قبل اندلاع جائحة كورونا، ولكنه لا ينكر أن هذا الوباء قد جعله يسرع في نشر الكتاب.
كما أشار معلوف في الصفحة 136 إلى كارثة تشرنوبل التي حدثت في أوكرانيا سنة 1986″، فقد انتشرت شائعات وتضخمت في الولايات المتحدة، وأفترض كذلك في سائر العالم أن جمع المواد الإشعاعية لن يكون على ما يرام، وأنه قد يتسبب بكوارث جديدة أسوأ من كارثة تشرنوبل، عوضا عن تفادي حدوثها".
وهذا ما قد يثير النقاد، مرة حين أغفل ذكر قنبلتي هيروشيما وناغازاكي اللتين فجرتهما أميركا في اليابان، وأتى على ذكر تسرب إشعاعي حدث إبان حكم الاتحاد السوفياتي، في ما يعني -بحسب الرواية- أن الشر مرتبط فقط بروسيا، مرة عبر ذكر القائد سارداروف، ومرة عبر ذكر تشرنوبل، خصوصا في ظل ما يشهده العالم من حرب تدور رحاها في أوكرانيا.
قضايا نفسية
يُعظِّم أمين معلوف في روايته من شأن العزلة ويدعو إليها في الصفحة 109 "لن أذهب إلى حد القول -على غرار ذلك الفيلسوف الوجودي- إن الآخرين هم الجحيم، لكنهم ليسوا الجنة كذلك، ماذا يحتاج الإنسان إذا كان يتمتع بموفور الصحة، وبوصلة موثوقة بشبكة الإنترنت".
وفي الصفحة 265 يشير إلى شرور النفوس التي تحكم هذه الأرض الآن "لو توفرت لنا المعرفة التي اكتسبها الإخوة فسنستعملها لكي نهدم بعضنا بعضا، وفي نهاية المطاف سنقوم بإفناء كل حضارة على وجه البسيطة".
كما ينفذ معلوف إلى قضية مهمة تخالج النفس البشرية ويعالجها بأسلوب لطيف، ففي الصفحة 313 وفي حديث البطل ألكسندر عن صديقه مورو يعترف الرسام لصديقه بالفضل والأسبقية، فيقول "من ناحيتي أعترف لنفسي بملكة واحدة، ملكة إدراك اللحظة الراهنة، و"التقاطها" في الحال، أما مورو فيتوقع ويستبق ويستقرئ، إنه قادر على أن يستشرف بفكره الأسابيع والشهور والسنوات القادمة، لتحليل المواقف المرجحة لمختلف الأطراف".
كما ينبه إلى سبل الحفاظ على الود بين الصديقين "وعوضا عن معارضته (مورو) أكتفي عادة باقتفاء أثره خلال تشعبات تحليلاته، وأتعلق بعرباته، وأستثيره قليلا من دون أن ألجم ذهنه، ومن دون أن أسحبه إلى الخلف، ولذلك أظن أننا نظل مقربين على الرغم من المسافات التي تفصلنا".
خلاصة
يتحدث معلوف عن بشريتين متوازيتين، إحداهما تعيش في النور، ولكنها تحمل الظلمة، والأخرى تعيش في الظلمة، ولكنها حاملة للنور. ص 98
وفي الصفحة 313 يقول بطل الرواية ألكسندر متحدثا إلى شريكته في الجزيرة ".. ومن الطريف أن تكون في هذه الجزيرة الصغيرة (جزيرته التي يسكنها منذ 12 عاما) زوايا لا يعرفها أحدنا بعد انقضاء كل هذه السنوات"، وكأن في هذا الكلام إشارة إلى أنه قد يكون الإخوة يسكنون مكانا ما في هذه الأرض لا نعرفه نحن.
تجعلك هذه الرواية تعتقد أنها الجزء المتمم لـ"غرق الحضارات"، فالمؤلف يشير إلى ذلك صراحة في الصفحة 250 ".. فعلى الرغم من كل ما جرى حتى الساعة أشعر بأنني ما زلت قادرا على العيش بطريقتي، بل والتعليق بتبصر على غرق الحضارات".
فالروائي الذي أخذ دور المؤرخ للماضي في غرق الحضارات، في تأمل لا يخلو من تشاؤم حول حالة العالم العربي والغرب، ويرى قدوم الغرق العام الذي سيؤثر على جميع فضاءات الحضارة هو نفسه يؤرخ هذه المرة للمستقبل في "إخوتنا الغرباء"، ويرى أن شرط النجاة أن نصبح راشدين، أن تنضج البشرية.
قبل 20 عاما كان يشعر بالقلق من ظهور "الهويات القاتلة"، وقبل "10 سنين كان أيضا يشعر بالقلق من "اختلال العالم"، وهو مقتنع بأننا نقترب من عتبة غرق عالمي في "غرق الحضارات"، ثم يأتي الآن ليضيء شمعة الأمل وسط ظلام اليأس في "إخوتنا الغرباء"، ويتحدث عن إمكانية النجاة فيما لو نضجت البشرية واتخذت الموت عدوا وحيدا.
لقد وفقت المترجمة الأستاذة نهلة بيضون في ترجمتها إلى العربية أيما توفيق، بعبارة سهلة ولغة بسيطة شبه خالية من الأخطاء الطباعية إلا ما ندر، مما يعني أنها أُشبعت مراجعة وتدقيقا.
لا تخلو الرواية من بعض الغموض وصل في بعض الأحيان حد التناقض، إلا أنني أظن أن هذا لا يعيب هذا العمل الجميل، لأنه يستشرف المستقبل المجهول متخللا ذلك بقليل من الخيال العلمي.
المصدر: الجزيرة نت