لماذا يشيع الحزن في النصوص العراقية؟
كربلاء – يقول نقاد إن النصوص الأدبية العراقية تميل إلى الحزن منذ القدم، فما الأسباب التي أدت إلى ارتباط الشعر والنثر العراقي بالحزن؟ يحاول نقاد الإجابة عن هذا السؤال.
يشير أقدم لوح كتابي إلى أن ملحمة جلجامش شهدت أول إشارة إلى الحزن من خلال رؤية جلجامش لجسد صديقه إنكيدو الذي مات بصورة محزنة، فيقول له "الآن، أي نوم هذا الذي غلبك واستولى عليك؟"، وطوال 7 أيام يظل ينتف شعره ويمزّق ملابسه هائما على وجهه خارج أسوار مدينة أوروك السومرية في جنوب العراق، وفي أحد نصوص الملحمة يقول جلجامش "لقد حلّ الحزن في جوفي" و"أصبحت خائفا من الموت وأجول في البرية".
الحزن الصادق
ويتحدث الناقد الدكتور علي حسين يوسف عن الحزن في اللغة بالقول إنه "الأسى على ما فات، وغلظ الهم، وتكاثف الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب كما نجده في ملحمة جلجامش مثلا"، ويشير إلى أن الأدب العراقي فيه مرادفات الحزن مثل "الحسرة، والشجن، والشجو، والأسى، والأسف، والبث، والترح، والغم، والكآبة، والكرب، والكمد، والندم، والهم، والوجع، والوله".
ويعزو ذلك إلى "الألم النفساني الذي يعرض للأدباء لفقدٍ ما، فيظهر متمثّلا بالشعور بالبؤس والعجز"، ويعتقد أن هذه المشاعر "قد تكون إيجابية لو فُسّرت بأنها من عوامل الإبداع"، ويذكر أن الحزن سببه تأثر الأدباء بفلاسفة الحزن مثل إميل سيوران وآرثر شوبنهاور وجياكومو ليوباردي وجان جاك روسو وفرانز كافكا وفيودور دوستويفسكي وأبي العلاء المعري وغيرهم.
ويرى أنه ليس مستبعدا أن نجد في نصوص عراقية "لحظات الحزن الصادق التي ينعدم تقسيم الزمن فيها إلى ماضٍ وحاضر، وهو اندماج يفصح عن نفسه عند الشعور باللاجدوى أو في لحظات استذكار من ذهبوا ضحايا لوطن اعتاد التضحية بهذه العلاقة".
ألف ليلة وليلة
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، قامت مجموعة من علماء الآثار البريطانيين والأتراك بالتنقيب في موقع آشوري عثر فيه على نحو 400 لوح كتبها مجموعة من العلماء والكهنة بين عامي 718 و611 قبل الميلاد، حيث يصف أحد الألواح مريضا يشعر بالخوف في قلبه والاكتئاب والارتباك، وكان العلاج سلسلة من الطقوس المعقدة، من بينها سكب القير الساخن على تماثيل الساحرات.
ويقول الروائي والناقد شوقي كريم حسن إن الحزن "متأصّل في الذات العراقية منذ الصيرورة الأولى.. منذ أن نشأت بلاد ما بين النهرين المتشظية الأعراف والمعارف التي لم تتوقف عند حدّ الفرقة بل تخطّتها إلى الاقتتالات المتكرّرة بين دويلات صغيرة حالمة بالتوسّع".
الناقد شوقي حسن: الحزن هو التاريخ المتلاحق الذي سيبقى مسيطرا ما دامت أرض السواد لا تريد خلع ثياب أحزانها (الجزيرة)
ويرى حسن أن "بلاد ما بين النهرين حملت اسما مرادفا للحزن بالدلالة (أرض السواد) أي مزارع الأحزان"، معتبرا أن جلجامش هو الدكتاتور الأول والأشرس، "حين كانت تُقدّم له العروس قبل أن تنكشف على عريسها"، ويعدّه صانعا أمهر "لمخازن الأحزان الرافدينية".
ويعرج حسن على النتاج الأدبي بالقول إن الحزن موجود في "قصص ألف ليلة وليلة، وفيها مسار انكسارات وأحزان لم تستطع الليالي التخلّي عنها"، ويؤكد أن هذه القصص بدأت مداخلها "بخيانة وقتل وحزن؛ هذا الإرث بعد دخول السرد إلى العراق صار المنبع الذي يعتمده السارد بوصفه فعلا إنسانيا طبيعيا".
ويعطي مثالا عن بداية السردية العراقية من خلال "الروائي العراقي محمود أحمد السيد في روايته (جلال خالد) حيث قدم الحزن والوجع عبر جميع شخوص الرواية، فكلما برقت لحظة فرح غطّتها سحب الحزن والضياع"، ويعتقد أن الحزن عند السارد محاولة "لإبعاد المؤرخ المنحاز وإحلال الصدق محله، لهذا ترسخت مفاهيم الأحزان وأمسكت بكل طرق الحياة وغاب الأمل".
ورأى أن الحزن هو "التاريخ المتلاحق الذي سيبقى مسيطرًا ما دامت أرض السواد لا تريد خلع ثياب أحزانها ومعرفة أسرار وجودها الخلاقة".
معادل موضوعي
الحزن في أبسط دلالاته هو الضد النوعي للسعادة، والحزن حالة انفعالية وشعور داخلي يختلط فيه الألم بالأسى والكآبة واليأس والقنوط والإحباط.
ولهذا يرى الناقد عمار عزت أن "ضغط الحزن كلما اشتد ازدادت الرغبة في التنفيس والتفريغ بوسائل متعدّدة، منها ما هو عدائي تجاه الآخرين، ومنها ما هو سلمي؛ بالصراخ والبكاء والعويل والشكوى ومناجاة الآخر".
ويشير عزت إلى أن الأديب "يلجأ إلى خلق معادل موضوعي شعري أو سردي يستشف القارئ من خلاله نوبة الحزن التي تعتريه"، ويعطي مثالا بما كتبه الشاعر الراحل بدر شاكر السياب في رائعته "أنشودة المطر"، إذ قال:
وتغرقان في ضبابٍ من (أسىً شفيفْ)
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريفْ،
والموت، والميلاد، والظلام، والضياءْ؛
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاءْ
ونشوةٌ وحشيّةٌ تعانق السماءْ
كنشوة الطفل إذا خاف من القمرْ!
ويرى عزت أن الحزن ارتبط بالموروث الشفاهي، "وما ظاهرة (الحادي) الذي يسوق الإبل إلّا شكل أوّلي من أشكال الشعر العربي"، وزاد على ذلك ما نراه في الرثاء ولوحة الطلل وفي الغزل العذري.
ويشير إلى أن الحزن له العديد من البواعث، منها "باعث نفسي يتجلّى في عدم قدرة الفرد على الاندماج مع محيطه، أو تعرضه لصدمات وتجارب مريرة"، ومنها باعث "اجتماعي يتمثل في التفاوت الطبقي وحالة الفقر أو الإكراهات التي يفرضها العرف الاجتماعي على الأفراد"، ومنها الباعث السياسي الذي "يتجلى في منظومة السلطة وممارساتها القمعية ومصادرتها لحق الرأي والتعبير".
ويؤكد أن "المجتمع العراقي ورث الحزن من أسلافه ووجد في الفرح ترفا يتطير منه، لأنه يعتقد أن وراء كل فرح مأساة"، ولهذا فإن الأديب العراقي هو "انعكاس لهذه البيئة التي تورث الحزن"، لهذا بدت صورة الحزن قاتمة وهي السمة الأقرب لتوصيف المجتمع العراقي.
المصدر : الجزيرة