المترجم السوري خالد الجبيلي: الترجمة ساهمت في استعادة توازني النفسي
الجبيلي: نحن العرب لا نترجم عددا كافيا من الكتب مقارنة بدول العالم الأخرى، ولا سيما البلدان الغربية، لأسباب عديدة أهمها عدم توفر الإرادة السياسية لدى البلدان العربية لوضع الترجمة في أولويات الحركة الأدبية، فضلا عن قلة عدد المترجمين الأكفاء بصورة عامة.
باريس- "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، ينطبق هذا القول الصوفي المأثور على عملية الترجمة بوصفها توليفة إبداعية دقيقة، تجمع بين نصين مختلفين وعالمين متنافرين، تتسع فيها رؤية البحث وتضيق فيها عبارة الترجمة في الوقت نفسه.
المترجم السوري خالد الجبيلي استطاع أن يذيب هذا التضاد والتنافر في ترجماته، وأن يبعث روحا جديدة من التخييل في النصوص الأصلية التي نقلها وترجمها إلى لغة الضاد، لأنه يشتغل بمبدأ تماهي المترجم مع النص الأول لأجل خلق نص جديد متفرد.
ويعتبر الجبيلي -المولود في مدينة حلب عام 1953، والمقيم في الولايات المتحدة- من أهم المترجمين العرب اليوم، وقد ساهم في ترجمة عيون الآداب والثقافة الغربية الكلاسيكية منها والحديثة.
وبالتوازي مع مسيرته الإبداعية الطويلة الزاخرة بـ73 كتابا مترجما حتى الآن، عمل الجبيلي لمدة 18 عاما مترجما ومراجعا في المركز الدولي للبحوث الزراعية ودائرة الترجمة العربية بالأمم المتحدة، في نيويورك.
وترجم ابن حلب روائع أدبية لأشهر الكتاب العالميين، صدرت عن كبرى دور النشر العربية مثل الجمل والحوار ونينوى والساقي وورد، وعرّف القارئ العربي على "ثلاثية الصلب الوردي" للمبدع هنري ميلر، وعلى روائع أدبية لجلال الدين الرومي وباولو كويلو وديمتري ناباكوف وشهريار مندني بور وألبرتو مورافيا والياباني حونيشيرو تانازاكي.
وفي الفترة الأخيرة، كان للجبيلي الفضل في تعريف القارئ العربي بالكاتبة التركية إليف شافاق، من خلال ترجمة عملين لها، هما: "لقيطة إستانبول" و"قواعد العشق الأربعون"، وعلى الكاتب الألماني السوري رفيق شامي من خلال روايتيه "الجانب المظلم للحب" و"صوفيا أو بداية كل الحكايات"، ويعكف حاليا على ترجمة روايته "سر الخطاط الدفين".
كما صدرت له أخيرا عدة ترجمات لافتة مثل "الصحراء وبذرتها" لخورخي بارون بيزا، و"حديقة الصخور" لنيكوس كازانتزاكي، و"العشق الإلهي" لأميد صفي، و"مسألة موت وحياة" للبروفيسور إيرفين يالوم ومارلين يالوم.
حول هذه الترجمات الأخيرة، وحول مسيرته الإبداعية المتميزة الطويلة، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الجبيلي. كما تطرق اللقاء أيضا الى الشعر والأدب الصوفي وقضايا الترجمة والثقافة، وترجمته لرائعة الكاتبة الأميركية الأكثر مبيعا جودي بيكلوت، الموسومة بـ"أتمنى لو كنت هنا"، التي تتناول جائحة كورونا وستصدر في الأيام القريبة القادمة.
-
كيف استفدت إبداعيا في حقل الترجمة الأدبية من عملك لمدة 18 عاما مترجما ومراجعا في دائرة الترجمة العربية بالأمم المتحدة، ولا سيما أن العمل في مثل هذه الهيئات يتسم بالترجمة التقنية والروتينية؟
من المؤكد أنني استفدت كثيرا من عملي في المركز الدولي للبحوث الزراعية ودائرة الترجمة العربية في الأمم المتحدة، فقد تعلمت الدأب والدقة الشديدة في الترجمة، والسعي إلى درجة الكمال، وتوسعت ثقافتي ومداركي، كما أتاح لي ذلك الفرصة للعمل مع عدد من كبار المترجمين في الوطن العربي. أما من الناحية الإبداعية، فلم تكن استفادتي عظيمة، لأن طبيعة العملين تختلف اختلافا كبيرا.
من خبرتي الطويلة في الترجمة في شتى الميادين والمواضيع، يمكنني القول إن الترجمة الأدبية تظل الأكثر صعوبة ومتعة، لأنها تتسم بالإبداع، وتتطلب خبرات محددة تختلف عن ترجمة النصوص التقنية. كنت أشعر أن ترجمة نصوص أدبية أثناء عملي المهني، يساهم في استعادة توازني النفسي كمترجم، وكنت أعتبر دائما أن المترجم الحقيقي لا يكتمل إلا إذا طرق باب الترجمة الأدبية.
كنت أشعر أن ترجمة نصوص أدبية أثناء عملي المهني، يساهم في استعادة توازني النفسي كمترجم، وكنت أعتبر دائما أن المترجم الحقيقي لا يكتمل إلا إذا طرق باب الترجمة الأدبية
-
تصدر لك خلال أيام ترجمة لكتاب "مسألة موت وحياة" للبروفيسور إيرفين يالوم ومارلين يالوم، وهو كتاب مهم جدا عن فلسفة الحياة والموت والتأملات، نابع عن قصة حقيقية. ليتك تضع القارئ العربي في المناخات الفلسفية والفكرية التي يتحرك فيها هذا الكتاب؟
نقرأ في هذا الكتاب قصة وفلسفة عقلين اثنين كتبها أستاذان مرموقان بأسلوب واضح وجريء، كانا يعودان بذاكرتهما إلى 65 عاما من حياتهما كزوجين ومفكرين، هما البروفسور إيرفين د. يالوم، وزوجته الدكتورة مارلين يالوم.
يغطي الكتاب فترة زمنية قصيرة نسبيا، لكنها فترة عاصفة ومضطربة في حياتهما، يتناوبان فيها على كتابة كل فصل من فصول الكتاب، بناء على طلب زوجته مارلين التي شعرت بدنو أجلها بعد إصابتها بسرطان خلايا البلازما.
يعتبر كتاب "مسألة موت وحياة" تتويجا لبحث إيرفين يالوم الدؤوب والطويل عن الحكمة حول فن الحياة والموت. وقد ألّف يالوم كتبا عديدة في التحليل النفسي، وعدة روايات تناولت الفلسفة والتحليل النفسي، من أهمها: "عندما بكى نيتشه"، و"علاج شوبنهاور"، و"مشكلة سبينوزا" التي كان لي شرف ترجمتها أيضا.
"العشق الإلهي" ورواية "إنجيل شجرة السم" من ترجمات خالد الجبيلي للعربية (الجزيرة)
-
حدثنا عن ترجمتك لكتاب "العشق الإلهي"، الذي ألفه الكاتب الأميركي الإيراني أوميد صفي، وعن تعاليمه الصوفية التأملية التي يسبح فيها؟
يضم هذا الكتاب المميز نبذة عن العارفين والصوفيين البارزين في التاريخ الإسلامي، ويجمع لأول مرة آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدور جميعها في الفلك الصوفي، بالإضافة إلى تعاليم طريق "العشق الإلهي".
ونقرأ فيه قصائد لجلال الدين الرومي، بالإضافة إلى قصائد وأقوال متصوفة آخرين مثل عين القضاة الهمداني، والخرقاني، وفريد الدين العطار، وحافظ الشيرازي، وآخرين، ويتيح هذا الكتاب الفرصة للقارئ العربي أن يطلع على مختارات رائعة من أقوال وأشعار كبار المتصوفة المسلمين.
-
كان لك فضل تعريف القارئ العربي على الكاتبة التركية إليف شافاق، من خلال ترجمة عملين لها، هما: "لقيطة إستانبول" و"قواعد العشق الأربعون". فما المميزات الفنية الإبداعية والفرادة الأدبية التي جعلتك تغامر بترجمة هذه الكاتبة إلى لغة الضاد؟
كنت في زيارة لمكتبة بارنز آند نوبل في نيويورك منذ سنوات عديدة، ولفتت نظري رواية حديثة الصدور في ذلك الوقت عنوانها "لقيطة إستانبول". عندما تصفحت الرواية، وجدت أن الكاتبة تتناول موضوعا جريئا بأسلوب سلس وجميل في بيئة تشبه بيئتنا العربية، فرغبت في ترجمة هذا العمل. وكتبت للكاتبة إليف شافاق آنذاك، وأعربت لها عن رغبتي بترجمة هذه الرواية، فرحبت بذلك، وقالت إنه يسعدها كثيرا أن يقرأ القارئ العربي عملها هذا (ولم تكن قد عُرفت جيدا لدى القارئ العربي بعد).
ثم صدر كتابها "قواعد العشق الأربعون" الذي لم أتوقع أن يلقى كل هذا القبول والإعجاب من القراء العرب في جميع البلدان العربية فور صدوره. في رأيي، إن الموضوعات التي تتناولها إليف شافاق في رواياتها وتنوعها وربطها بين الماضي والحاضر، هي من الأسباب الرئيسية التي جذبت القارئ إلى قراءة أعمالها.
-
كيف تنظر إلى تطور الأدب التركي المعاصر في العقود الأخيرة، خاصة بعد فوز الكاتب أورهان باموق بجائزة نوبل للأدب؟ ما مميزات هذا الأدب الذي جعله يحقق نجاحات كبيرة في الغرب؟
للأسف، لا يوجد لدي اطلاع واسع على الأدب التركي المعاصر. أظن أن ما جعل أعمال كتاب أتراك يحققون هذا النجاح الكبير مثل أورهان باموق وإليف شافاق وغيرهما، هو فرادة الموضوعات التي يتناولونها، المحلية والعالمية في آن واحد، وأسلوب تناولهما لها.
-
من أهم مبادئ الصوفية وأقوالهم المشهورة "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، فإلى أي مدى ينطبق هذا المبدأ على عملية الترجمة بوصفها توليفة جميلة ودقيقة بين نصين، تتسع فيها رؤية البحث وتضيق فيها عبارة الترجمة في الوقت نفسه؟
الترجمة عملية إبداعية تنطوي على تراكيب وأنساق وبنى لغوية وفكرية، لذلك ينبغي للمترجم أن يتمتع بذائقة أدبية عالية، وأن يكون لديه اطلاع واسع على ثقافة اللغتين اللتين يترجم منهما وإليهما، لأنه يعيد صياغة النص الأدبي الأصلي بلغة جديدة، ويبعث في النص المترجم روح عالم جديد من التخييل، وينقل عالما ذا خصوصية معينة يطابق -إلى درجة كبيرة- العالم الذي ابتدعه الكاتب الأصلي.
وأرى أن على المترجم أن يتماهى مع النص الأصلي كي يتمكن من نقل أفكار الكاتب الأصلي وثقافته وأسلوبه بدقة، لكن بلغة جديدة مختلفة تماما من حيث التراكيب والسياق.
-
كيف تختار الكتب التي تترجمها، هل هو الوازع الذاتي الشخصي وعملية الاستفزاز التي تحصل لك من قراءة الأثر، أم الدوافع الموضوعية الأخرى؟
لا توجد لدي معايير دقيقة، لكن المعيار الذي أهتدي به عند اختيار كتاب لترجمته هو أن يكون موضوعه ممتعا وذا فائدة وينطوي على أفكار جديدة تغني الثقافة العربية. في كثير من الأحيان، أقترح عملا على الناشر، وفي أحيان أخرى، يقترح الناشر عليَّ عملا، فإما أن أقبله أو أعتذر عن قبوله وفق المعيار الذي ذكرته. ولا أعبأ كثيرا بترجمة كتب لكتّاب معينين لمجرد أن أسماءهم مشهورة في دول عربية، والكتب التي ترجمتها هي خير مثال على ذلك.
-
ترجمت الرواية مثلما ترجمت الشعر، فما الاختلافات والحساسيات والصعوبات بين ترجمة الشعر والرواية؟
ترجمت القليل جدا من الشعر، وتكاد ترجمتي للشعر تنحصر في الشعر الصوفي. الترجمة في حد ذاتها -كما تعلم- عمل مضن وشاق، وترجمة الشعر على نحو خاص تتطلب قدرا كبيرا من الحساسية والموهبة الشعرية لدى المترجم.
"مسألة موت وحياة" و"جريمة الولادة" من ترجمات خالد الجبيلي للعربية (الجزيرة)
-
ترجمت الكثير من الأعمال للكاتب الأميركي هنري ميلر، فما الأثر الذي تركه فيك هذا الكاتب المتفرد؟
إن شدة إعجابي بأعمال الكاتب الأميركي الشهير هنري ميلر، صاحب الكتابة المتفردة التي يمكن أن نصنفها في فئة السهل الممتنع، هي التي دفعتني إلى ترجمة أهم أعماله، وهي: ثلاثية الصلب الوردي. ذكر لي بعض الأصدقاء أن الثلاثية من أروع الكتب التي ترجمتها.
-
برأيك هل قدم المستشرقون إضافة للأدب العربي من خلال دراساتهم ونقلهم وترجمتهم له، أم كرسوا النظرة الاستشراقية الكولونيالية الفانتازية؟
قدّم بعض المستشرقين خدمات جليلة للغة العربية وأسهموا في الحفاظ عليها بما وضعوه من معاجم، أما المستشرقون المسيّسون -إن صح التعبير- فربما كان لأعمالهم واهتماماتهم دور لا يصب في مصلحة الأدب وغير الأدب، وهذا موضوع تناوله بإسهاب المفكر إدوار سعيد في كتابه المفيد "الاستشراق".
-
تصدر لك قريبا ترجمة رواية "أتمنى لو كنت هنا" للكاتبة الأميركية جودي بيكولت التي تتناول جائحة كورونا، فكيف تناولت بيكولت تفاصيل الجائحة؟ وما معادلتها الإبداعية في نقل هذا الوباء من الواقع إلى التخييل؟
تعد رواية "أتمنى لو كنت هنا" للأميركية جودي بيكولت رواية متميزة، ولعلها من أولى الروايات العالمية التي تتناول جائحة كورونا بأسلوب روائي مدهش ودقيق. إذ تبدأ الرواية في 13 مارس/آذار 2020، ونعرف جميعا ما الذي حدث في ذلك اليوم، عندما تحولت حياة البشر الطبيعية إلى حياة مليئة بالفزع والاضطراب.
فقد قررت الفتاة الشابة ديانا، المتخصصة في تسويق الأعمال الفنية في دار سوذبي للمزادات الشهيرة بنيويورك، وصديقها فين الطبيب المقيم في مستشفى نيويورك بريسبيتيريان، قضاء إجازتهما في جزر غالاباغوس، لكنها فوجئت عندما أخبرها صديقها أنه لن يتمكن من مرافقتها في تلك الرحلة، لأن إدارة المستشفى أعلنت أن على جميع الأطباء البقاء في المستشفى للمساعدة على مواجهة الفيروس الجديد الغامض الذي أخذ ينتشر في المدينة.
وكان من المتوقع انتهاء هذه الأزمة خلال أسبوعين وعودة الحياة إلى طبيعتها. سافرت ديانا بمفردها ظنا منها أنها ستكون في أمان في تلك الجزيرة المنعزلة، لكنها فوجئت عند وصولها إلى جزيرة إيزابيلا في جزر غالاباغوس بأن الجزيرة ستغلق خشية تفشي الفيروس الجديد، لكنها قررت البقاء في الجزيرة.
بأسلوب جميل تصف لنا بيكولت مشاهد الجزيرة الرائعة والأحداث والمغامرات التي واجهتها ديانا فيها.
-
بعد هذه التجربة الطويلة في حقل الترجمة، كيف تنظر إلى حركة الترجمة في الوطن العربي؟
من المسلّم به أننا نحن العرب لا نترجم عددا كافيا من الكتب مقارنة بدول العالم الأخرى، ولا سيما البلدان الغربية، لأسباب عديدة أهمها عدم توفر الإرادة السياسية لدى البلدان العربية لوضع الترجمة في أولويات الحركة الأدبية، فضلا عن قلة عدد المترجمين الأكفاء بصورة عامة.
أرى أن ما يصدر من أعمال مترجمة في الوطن العربي معقول نسبيا، لكن قدرا من تلك الأعمال يفتقر إلى جودة الترجمة ودقتها، ويعزى ذلك إلى أن عددا ممن يضطلعون بهذه المهمة الشاقة، يفتقرون إلى الموهبة الأدبية الحقيقية. فلا تكفي إجادة اللغتين -المترجم منها والمترجم إليها- من دون توفر الموهبة الحقيقية والخبرة اللازمة في الترجمة الأدبية.
في رأيي، يصعب حاليا تحقيق منهجية موحدة وواضحة للترجمة ضمن مشروع ثقافي حضاري عربي موحد.
المصدر : الجزيرة