الظلام الرقمي الكبير.. تراث البشرية في القرن الـ21 ومخاطر فقدان التقنية
الإمبراطوريات تسقط، والمكتبات تحترق، والبشر يموتون، لكن التراث المادي للبشرية يمكن تتبّعه في عناصر أثرية قديمة تركها البشر السابقون في شتى أنحاء العالم، وإذ يجد المؤرخون والباحثون الأثريون تسجيلات قديمة على الحجر والرق والبرديات، لا يترك البشر اليوم سجلات كثيرة يمكن قراءتها بالعين المجردة من دون وسائط تقنية وأجهزة تكنولوجية وبرمجيات ومعرفة فنية.
تخيل عاصفة كهرومغناطيسية عالمية كارثية تعطّل البنية التحتية للمعلومات الرقمية للأرض، تبدو هذه التخيلات المروّعة بعيدة عن الواقع الحالي وأقرب إلى أفلام الخيال العلمي الديستوبية (الواقع المرير المتخيل)، لكن إثارة الفكرة كتجربة فكرية مثيرة للفضول تبدو أمرا مهما، فسجلاتنا الحالية أصبحت رقمية بطريقة تجعل كثيرين يتساءلون عن الأدلة الوثائقية التي ستبقى للمؤرخين المستقبليين الذين يحاولون دراسة حضارتنا الحالية.
يستخدم الأدباء والكتّاب والمؤلفون والناشرون وحتى الصحفيون حاليا الحواسيب والمواقع وخدمات التخزين السحابي لحفظ معلوماتهم وبياناتهم إلكترونيا، لكن كثيرًا من تراثنا الثقافي العالمي معرض لخطر الاختفاء؛ ذلك أن شطرا كبيرا من المعلومات والبيانات والمعارف الإنسانية التي ننتجها الآن طريقة إنشائه وتخزينه إلكترونية من دون نسخ احتياطي مادي من أي نوع.
ومع استمرار تقدم التكنولوجيا، وتغير أجهزة الكمبيوتر والبرامج، يستمر تزايد احتمال أن تصبح بيانات أوائل القرن الـ21 يومًا ما غير قابلة للقراءة.
آفات تقنية
يرى الباحث الكندي في تاريخ التوثيق الرقمي تيري كوني أن كميات هائلة من المعلومات الرقمية قد فقدت إلى الأبد بالفعل، ويلاحظ أن التراث المدوّن رقميا لا يمكن إعادة نشره مجددا ما لم يؤرشف من البداية بصورة صحيحة لاعتبارات تقنية، وذلك يجعل مهمة "الإنقاذ" صعبة ومعقدة وباهظة التكلفة.
وقد صاغ كوني مصطلح "العصر الرقمي المظلم" في التسعينيات من القرن الـ20، ويرى أن أنظمة التخزين الإلكترونية لا تستوعب أحيانا التراث الرقمي الأقدم، وتختلف التقنيات المستخدمة في كل مرحلة، وذلك ما يجعل استمرارية التوثيق الإلكتروني مسألة صعبة من دون الرجوع إلى الوراء والتوافق مع التقنيات القديمة التي يحتمل أن تكون الشركات التي أنتجتها قد اختفت أيضا من الساحة، كما أن اختلاف البرمجيات التي تشغل الوسائط قد يجعل من الصعب التعامل معها.
وإذ تستمر الموارد المالية المتاحة للمكتبات ودور المحفوظات في الانخفاض، وتزداد تعقيدات أنظمة الترخيص والملكية الفكرية التقييدية، يصعب على المكتبات ومؤسسات الأرشفة والتوثيق حفظ التراث الإلكتروني الحالي، بخاصة مع خصخصة هذا القطاع عالميا على نحو متزايد يجعل المعلومات والمعارف سلعة تتنافس عليها الشركات التجارية.
العصر الرقمي المظلم
تقدم بعض منصات الإنترنت خدمة أرشفة الصفحات الإلكترونية المفقودة التي يمكن العودة إليها والاطلاع على محتواها حتى عند إزالة المواقع من الشبكة الإلكترونية، لكن ماذا لو اختفت شبكة الإنترنت كلها أو تعذر الوصول إليها كما يحدث في حالات الطوارئ والكوارث؟ فليس من ضمانات بأن التقنية الحديثة ستعمل على امتداد آلاف السنين كما فعلت التقنية القديمة مثل النقوش الحجرية وألواح الكتابة الطينية.
يقول باحثون إن البشر المعاصرين ينتجون كمية هائلة من المعلومات والبيانات، بما في ذلك التراث المعرفي، ولكنهم يمكن أن يورّثوا الأجيال القادمة جزءا بسيطا من هذا التراث مقارنة بما ورثوه من تراث أسلافهم المدوّن على الجداريات والكتابات المادية وحتى النقوش الحجرية التي احتفظت بما كتب عليها منذ آلاف السنين.
وفي دراستها عن "العصر الرقمي المظلم"، تقول الباحثة في إدارة المتاحف والتراث بجامعة "نوتنغهام" البريطانية، لويز وليامز، إن الحكومات والشركات والمؤسسات البحثية والمكتبات ومؤسسات الأرشفة أصبحت معتمدة بالكامل على المعلومات الرقمية، وكذلك الأفراد، وغدت مسألة رقمنة عالم البحث أبكر بكثير وأسرع من العديد من القطاعات الأخرى، ويشكل ذلك تهديدًا لطول عمر المعلومات العلمية واسترجاعها.
وإذ يعتمد العلم اعتمادًا على المعرفة المكتسبة في الماضي لمزيد من التقدم، من الغريب أن بعض الناس يعتقدون أن مخاطر فقدان التراث العلمي في العالم الرقمي أقل بدعوى أنه "أصبح الآن من السهل جدًّا تخزينها في مكان ما رقميًّا"، ويرى كثيرون أن التراث العلمي "ما دام رقميًّا، فهو آمن"، لكن أي شخص حاول فتح ملف قديم، أو تشغيل تسجيل فيديو أُنشئ قبل بضع سنوات، بغض النظر عن مدى جودة تخزينه وأمانه، سيجد أن الأمر ليس بهذه البساطة، كما تتابع الباحثة.
وغالبًا ما يكون تحويل الملفات أو نقلها إلى التنسيقات الأحدث غير متاح أيضًا، فضلا عن التقادم التقني الذي يفسد العديد من الملفات. وباختصار، فإن أي شيء رقمي هشّ وقابل للضياع بسبب انفجار كميات المعلومات والبيانات الرقمية من ناحية الحجم؛ ففي العصر الرقمي هناك مشكلات الحفظ نفسه، والمشكلة الثانية تكمن في قابلية فهم البيانات، فقد كان فك شفرة النصوص القديمة ممكنا مثل الكتابة الهيروغليفية والمسمارية، لكن المعلومات المخزنة رقميا قد لا يكون فهمها بتلك السهولة.
السياق الاجتماعي للتقنية
وفي مقارنة لمجلة تاريخ الأفكار (JHI)، وجد المؤلفان سارة موهر وإدوارد سي وليامز أن البشر هم مفتاح بقاء المعلومات المكتوبة بالكتابة المسمارية على ألواح الصلصال طوال مدة بقائها؛ ففي بلاد ما بين النهرين القديمة كانت الثقافة الكتابية تعني نسخ محتويات الألواح الطينية نسخا متكررا من أجل الممارسة والحفظ. وهناك نصوص نعرفها من نسخة واحدة فقط، ولكن من أجل بقاء تلك النسخة على قيد الحياة كان لا بد من وجود نسخ أخرى، ولم يضمن الصلصال والقلم الحفاظ على المعلومات المكتوبة بالكتابة المسمارية، بل الناس بممارساتهم في الكتابة هم الذين حافظوا عليها.
ويقول الكاتبان إن الكتابة المسمارية أكثر من مجرد أثر الكلمات على ألواح الصلصال بقلم القصب، فقد كانت متجذرة بعمق في أفعال مجموعات معينة من الناس وفي ثقافتهم، وهذه الفكرة تنطبق بالتأكيد على التكنولوجيا ككل؛ إذ توجد علاقة متبادلة بين جميع عناصر المجتمع، ولا يمكن النظر في كل عنصر مكوِّن أو تقييمه من دون سياق الكل، فبدلًا من التركيز على الطين والقصب من الضروري مراعاة "النظام الاجتماعي التقني" بأكمله الذي كان يحكم التفاعل بين الناس والتكنولوجيا.
ويتابعان أن من المدهش إلى حد ما أن التكنولوجيا القديمة لم تتطرق كثيرا إلى الجانب الاجتماعي المصاحب للتقنية، بخاصة مع الإقرار بتأثير السياق الاجتماعي في التكنولوجيا الحديثة؛ فلا ينبغي أن تكون التكنولوجيا فعالة فحسب بل ينبغي أن تكون مطابقة للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تستخدم فيها.
وفي النهاية، كانت ثقافة الكتابة في بلاد ما بين النهرين القديمة هي التي التزمت بالنسخ وإعادة النسخ على مدار آلاف السنين، ومناقشة فكرة "العصر الرقمي المظلم" قد تجعل العالم يفكر في الطرائق التي يمكننا بها تعديل ممارستنا الثقافية باستخدام أدوات التكنولوجيا.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية