"عائد مع الأبطال من أودية العطش مع كوب شاي بارد"
بكري عمر سيسي الفلاح الأسمر
كان العطش مسنّا وكان السراب شابا يافعا يركض كلما راوده شعور الالتحاق به من قِبَل صوت عكازة العطش، وكان الجوع حوريةً فاتنة تسرق الأضواءَ من الرائي البعيد في وادي السغَب المهيّج بقناديل أحلام الحيران، وفوق سطح كوكب الوادي المشوش سحبٌ تزيّن لمخيلة الساري أوردةَ النهر المنسابة في أباطح العقل، وفي أذيال هذه الأوهام شواطئ تتدفق منها أمواج الحياة اليائسة، كالليل - يرتدي حلّة كاملة من النجوم البراقة - خُلَّبًا، لمن طال سهاده وقُضّ مضجعه.
هكذا تطول بنا أيام العطش في وادي الصمت، لأن الرمال أهدت نفسها شرابا وثديا مليئا بالدم لنمتص جذور شريانها، وكان الموت يضحك ويلهث خلفنا، وها نحن يدركنا يوم الإثنين ولا زالت الأنفاس تتلو آيات الإرهاق في وادي النجم الذي تهاوت أنجمه الزهراء على رؤوس التعساء، ليسطع بهم زمنُ النحس، فأرادوا أن يضيؤوا الدروب بسطور الأمل لكن كانت حروفهم عاهرة أشد خطرا من ذلك السلطان الذي استولى على أضواء الوادي بعد انطفاء النجوم، لا أحد يجرؤ على التمرد لأن عيون السلطان تملأ قيعان الوادي، لذا قرروا الاختباء من ذلك الوادي ليصادفوا يوم الثلاثاء في وادي الرحيل حين كان قد انتفضت بهم أجنحةُ السفر، وعلى قرب مسافة من عقارب العمر خلف زجاج الوقت حطوا رحالهم في مرسى النعاس قرب العدوة المنسية بين البحر والبحر، وأثناء يقظة أحلامهم أنجب البحر سيدةً من لؤلؤ وتبتسم من عنبر وزبرجد عقيق، وتتدفق بين أوردتها مناجم من المرجان تخالها مرآةً نسجت من لا شيء، لكن الذي ورث عن زرقاء اليمامة بُعد البصيرة قال؛ هذه هي جوى.... وسكتَ كأن ملاكا سكن بين ضلوعه ليصبح شاردا في ذاته، الإثارة الإثارة.
سأختصر المسافة المؤلمةَ بك أيها القارئ كيلا تصاب بسكتة دماغية وأحاول أن ألاقيك في وادي الصخرة يوم الأربعاء لكنني دعني أرّحب بك بأغنية الصخرة التي اتخذت أصابعَها قيثارة للعابرين في الصدى في ذهول الصمت، فأيقظت النهر في وادي الخميس بصوتها الشادي، وكانت قطرات أمواج وادي النهر عبارة عن جماجم وئدتْ في رحم تربة النهر لكن الأغنية أيقظتها من سباتها الممل، فسأل أحد المذهولين عندما رأى النهر ملطخا بالدماء قائلا؛ هل تقبل صلاةُ النهر في معبد الأغنية، والقديس الحاضر حينها فهم القصد فأجاب؛ عليهم أن يتوضؤوا باللظى ويتمموا بالدماء، ثم سألهم هل رأيتم نهرا ميتا يتحرك ساكنا ويتهادى طريحا رحم الله النهر كان يوما في عنفوان شبابه يحلم أن يتزوج الشمسَ ولكن السلطان اغتصبه فحمَل منه بهذه الابطال المتردية في رحمه الذي يكتم هذا السر الخطير، لأن النهر يجيد لغة الصمت، واليوم أنتم جئتم لإنقاذهم من سباتهم الممل بأغنية هذه الصخرة الصلبة بعد مضيّ عقود من هذا الهدوء الشجن،
إلا أن النهر لم يطق كلَّ هذه الخُطَب والحوارات الملغزة فزلزلت أقدامه في وادي الهزيع صبيحة اليوم الجمعة، وأخذ يلتوي مثل إناء فيه أشياء متنوعة يغربلها ويصبُّ الغثَّ على صدر الرمال ويهدي أبناءه للمأساة شدة خوفه وتلعثمه في جانب، وجانب آخر لشدة تأثره بأغنية الصخرة لأنه عرف أنهم الآن سيعبرون في الوادي السابع بجنود السلطان الطاغي يضرمون النارَ التي سيرمون فيها أمام الجموع بعدما وئدوا في رحمهِ قبل عقود، يا إلهي!!
الإحراق عدوّ الغرق فكيف إذا اجتمعا تحت سقف اللحظة، لذلك اقترح عليهم مجنونٌ بأربع خطوات؛ شربٌ وارتواءٌ وسكرٌ وتجلٍّ، لأنّ على الحتف أن يكون ضيفَ الأبطال لا العكس كما تتزين العذراءُ للعريس مقابل عذريتها في يوم ذبيحتها، لأنّ من يقبل الشتاء يظل في الشتاء، لذلك على القهوة أن تبرد وأنت أيها القارئ ترتوي من صيف هذه الرواية وحرارتها، وهل العصافير فكرتْ يوما بأن الشجرة التي تتفيؤها هي التي تعاني من سطوة الشمس لتصبح بردة لها!،
واااااو ها هي عجوز السلطان تدق الناقوسَ لتكوية الأبطال الهادئين في خطوط التيه الذين لم يجدوا في الأودية سوى سراب مليء بالغرائب، ولكن قبل التنفيذ خرّتِ العجوزُ وتأوّهت سبع آهات طويلة غائرة كالفزع قائلة؛ غرباء أنتم، والوجع يهدّكم، طوبى للغرباء، طوبى لجوى، واعلموا أن كل شيء هنا عكس ما في عالمكم، فالجمال هنا جريمة والقبح عظيم، واللص حرّ محبوب، والمسكين هو الظالم، والمظلوم هو السارق، أرجو منكم أن تعوا نصيحتي المبحوحة قبل أن ترقدوا بسلام؛ أنّ من همّ بالأدوية فقد اكتمل له الكربُ والخَطبُ، لذا ما بين النهاء والنهاء الأدنى والنهاء الأقصى سرابٌ يشبه حوريةً يأمُل الرائي أن يفضّ بكارتها فيجدَ ذلك السراب عالَما مليئاً بالألغاز والأحلام الضغيثة، ويقَعَ في فخ الموتِ ويظل سابحًا في نهر العطش في أودية لا وجود لها في أرض الواقع...،
وقبل أن تكمل العجوز نصيحتها المصدومة استيقظ أحدهم فجأة من قيلولته، ومن شدة ذهوله أصدر صوتا أيقظ الجميع من سباتهم ليعود بهم هذا الصراخُ إلى عالم الواقع ومن فيهم أنا الفلاح الأسمر الكاتب، المسحور برواية أودية العطش لأكمل احتساء الشاي الذي برّده مكيّف الرواية، هل أسقي الشايَ للأرض أم أشربه على مرارة انتهاء الرواية الشائقة، أيها القارئ هذا التعليق المقلوب بوابةٌ للخروج من رواية أودية العطش بنوع سردية أخرى على غير سرد الكاتب لرواية أودية العطش "بدي ابنوا" من قِبَل قارئ رأى منحى آخر لبناء الفرع على الأصل ليستطيع الانفلات من سحر هذا الكاتب الموريتاني العظيم.
الفلاح الأسمر