نعي مجلس اللسان العربي للقاضي أحمد يرو كيده
بيان:
"بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ * ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ * فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي﴾
بقلوب مؤمنة بقضاء الله القائل: ﴿كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ﴾ و﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ مطمئنة لصادق وعده حيث قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِين﴾... الآية، ينعي مجلس اللسان العربي بموريتانيا إلى أعضائه وإلى سدنة اللغة العربية، وإلى أبناء موريتانيا ودول الجوار، وإلى سائر المسلمين العضو المؤسس في المجلس فضيلة القاضي الشيخ أحمد يرو كيدي، الذي لبى – رحمه اللـه - داعي ربه يوم السبت 18 ربيع الآخر 1444ه/ 12 نوفمبر 2022غ، بعد حياة طيبة حافلة بالعطاء العلمي غير الممنون.
ولئن كان رحيل الشيخ القاضي خسارة لمجلس اللسان العربي الذي فقد برحيله ركنا من أركانه، فإنه كان خسارة كذلك للوطن كله؛ بل وللأمة الإسلامية، عربيها وإفريقيها وغيرهما، فقد كان الراحل من رعاة اللحمة الوطنية ودعاة جمع الكلمة ووحدة الصف، وكان من بناة الوعي الوطني والديني، بما كان ينثر وينشر من علمه الغزير، في دروسه وخطبه وبرامجه المسموعة والمرئية، عبر مختلف وسائل الإعلام؛ خدمة للشريعة الإسلامية وللغة الضاد التي مثل قمة من قممها ورمزا من رموزها، وكان أحد القلة المتمسكين بالحديث بها فصيحة نقية حتى في الأحاديث الشخصية العادية.
ولد الفقيد القاضي أحمد يرو كيدي سنة 1949غ في "انيابنا" بمقاطعة امباني (ولاية لبراكنه) وأخذ دروس الصبا من القرآن ومبادئ العقيدة على والده وعلى ابن عمه، ثم لازم شيخه الأكبر عبد الرحيم بن دمبا الكندلي؛ فأخذ عنه علوم القرآن، والفقه المالكي والأصول، والحديث وعلومه، واللغة العربية بشتى فروع دراساتها النحوية والأدبية والبلاغية، المعروفة في المحاضر الموريتانية.
وبعدما تضلع من العلوم المحضرية، دلف إلى التكوين العصري؛ دراسة ومطالعة، فحصل سنة 1964غ على شهادة الكفاءة العربية، ثم شهادة الفلَاح الثانوية سنة 1968غ.
وفي سنة 1969 ولج باب القضاء بنجاحه في مسابقة اكتتاب وكلاء القضاء العقدويين، ليتدرج بعد ذلك في السلم القضائي بالنجاح في المسابقات، والدراسة المتكررة في المدرسة الوطنية للإدارة، حسب أطوار السلك القضائي. وشغل عدة وظائف في قطاع العدالة قبل أن يدخل مسابقة اكتتاب القضاة سنة 1983غ وينجح فيها، ليعين قاضيا ويشغل مناصب سامية في سلك القضاء في مختلف محاكم ومناطق الجمهورية، حتى تقاعد مع نهاية 2009غ.
وطوال مسيرته المهنية التي مارسها بجدارة ظل المرحوم أحمد يرو كيدي، متصدرا النخبة العلمية والأدبية في البلاد؛ عالما وإماما ومدرسا وباحثا مؤرخا، وشاعرا أديبا كاتبا، وخطيبا مفوها، وإعلاميا جذابا لا يمل حديثه، يمتلك لسانا وبيانا يضفيان على درره العلمية طلاوة وحلاوة تجذب الأسماع وتأسر الألباب.
أنتج حب اللغة العربية والاهتمام بخدمتها لدى العلامة القاضي أحمد يرو كيدي، ثمارا يانعة وآثارا نافعة؛ حيث خلف ديوان شعر مخطوطا، ومحاضرات ودراسات وأنظاما في تاريخ النحو العربي وأسانيده، وخاصة بين علماء منطقة "فوتا تورو" (ضفة نهر السينغال) التي تخصص في تاريخها العلمي والروحي والاجتماعي... وكان يقول: "اللغة العربية والإسلام توأمان لا ينفصلان"، ويقول: "وقد اجتمع للغة العربية هذا الكمال والحسن والأهلية لان تكون وعاء لكتاب الله تعالى وسنة رسوله (ﷺ)... وعليه لا يمكن لأي مسلم ان ينهل من معين القرآن والسنة ما لم يأخذ بزاد من اللغة العربية".
وقد أدى الراحل أدوارا بارزة في المجتمع، خدمة وتوجيها وترشيدا... فكان عضوا في مجامع وهيئات وطنية، ونجما لامعا في المؤتمرات والأنشطة العلمية والثقافية والأدبية؛ شعرا ونقدا وتحكيما...
وهكذا كان ـ رحمه الله ـ عضوا مؤسسا في مجلس اللسان العربي بموريتانيا، وعضوا في ديوانه، ورئيسا للجنة شؤون عضوية المجلس، وقد حيا ميلاد المجلس بقصيدة بعنوان "أنا اللسان". وكان من آخر نشاطاته العلمية محاضرة مشهودة موثقة قدمها في المجلس عن السند النحوي في منطقة فوتا سعى سعي الباحث المجد ليرتق فيها فتقا في أسانيد النحو في البلاد.
وإلى ذلك، كان الفقيد عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى (من 2012 حتى 2017غ)، وعضوا في اللجنة المركزية لمراقبة الأهلة، وعضوا في المكتب التنفيذي لاتحاد الأئمة، وعضوا في رابطة علماء موريتانيا...
وعلى الصعيد الشخصي يتسع القول حين يتطرق لصفاته الذاتية وما فيها من حسن الخلق والتواضع والصدق والوفاء، وحسن السمت وكمال الهيئة...
وإن مجلس اللسان العربي بموريتانيا إذ ينعي ببالغ الحزن عضوه الراحل فضيلة القاضي أحمد يرو كيدي، فإنه يتقدم بخالص العزاء والمواساة لأبناء فقيد اللسان والبيان ولسائر أهله الكرام، ولتلامذته ومحبيه وكافة متابعيه، وللشعب الموريتاني كله، وللأمة العربية والإفريقية وسائر الأمة الإسلامية.
وإننا إذ نحتسب الفقيد عند اللـه لنضرع إليه سبحانه أن يوسع مدخله ويكرم نزله ويحسن مثواه، ويجزيه جزاء عباده الصالحين وأوليائه المتقين ويورثه الجنة، ويلهم ذويه الصبر والسلوان، ويواتر عليهم نعمه ويصرف عنهم نقمه.
هذا و{إنا لله وإنا إليه راجعون}."