كتب المرتضى محمد أشفاق.. لا يستطيع أن يكون هذا الشاعر شيئا آخر..
لن أقول ما قاله طه حسين في تقديمه مسرحيةَ السد لمحمود المسعدي، حين خاطب القارئ بعبارة (حسبك)، ليقول إنه قرأها ولم يفهمها، مع ما تحمل العبارة من غرور، ففيها شكل من أشكال التثبيط، و(دَكْرَجَةِ) القراء، ومحاولة صرفهم عن قراءة عمل ميؤوس من فهمه..
عندما تقرأ نثر المختار السالم تقول إنه كاتب ما ترك منه النثر شيئا لسواه..وإذا قرأت شعره قلت هذا أروع، لا يمكن أن يكون المختار السالم إلا شاعرا، لا يستطيع أن يكون هذا الشاعر شيئا آخر..
لكن احذر، فقبل أن تخدي بك ركائبك، وإنك لتسمع تهامس حنين العيس، وحمحمة المطايا في وديان عبقر، وترى تمائم الهائمين، وتعاويذ التحصين من مس شياطينه معلقة على جذوع عجائز الدوم، فتمتم ب(كود) المختار السالم الفني الفريد، تنهمل عليك سحائبه، وترَ الودق يخرج من خلاله..
أما الكود، فلا أنا أعرفه، ولا هو يعرفه، هو لغز محير، مستعص على من لم يتعود فك شيفرات عالم الصوفية الغفل، وهم يبلغون بلغة الصمت، والإشارة، والآهات، ما لا يسطيعه أمراء البيان والتبين، ولم تنكشف له طلاسم المتمردين، ورموز الرافضين السير في دروب لم يشقوها أصلا، الثائرين على مقولة: (أرض وطئت خير من أرض لم توطأ).. وإلا فستبقى على العتبة حائرا، تتشابك عليك الخيوط، وتتشابه عليك الممرات، والردهات، فلا تدري شرقا من غرب، ولا أرضا من سماء..
ليست نصوص المختار السالم من المتبذلات لطوارق الليل، ولا الرخيصات المتكشفات للقُصّر الواهمين..
نصوص المختار السالم منْتَقِبات، حصان من ملامسةصغار الطفيليين، معرضات بكبرياء حروفهن، وعذرية كلماتهن عن فضوليي الميادين الصاخبة..والأنوار الخافتة..
ينام صاحبها ملء جفونه عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم...
قاموسه اللغوي، وحقله التعبيري خاصان به، منفصلان عن عالم الاستعارات، والتشبيهات، والصور التقليدة المجترة..
كم أنهكتنا الصورة المومياء، وكم أصابتنا أكفانها المحنطة بالغثيان، ونحن نستنسخ من خيوط عباءاتها شالا، وكوفية، وسجادا، وغطاء لرضيع..
وحين نقرأها يرهقنا بيانها، وبديعها، ومجازها المكرر كعجوز لا تكمل عدة حتى يعقد لها قران جديد.. وما الشعر إن لم يكن غزوة جديدة، وفتحا جديدا ترى فيه الكواعب سبايا لم يطمثهن قبلُ إنس ولا جان، وما الكتابة إن لم تكن حسناء بكرا، لا تحتاج إلى أن تضرب الأرض برجلها ليُعلَمَ ما خفي من زينتها، نرى من سحرها، وأسرها ما لم نره في متجردة النابغة، ولا عند ابن الحسين، وأبي ريشة..
ولن نخرج من ربقة التبعية، وتدوير الصور العتيقة، ما لم يعرف الأديب أن أعماله تكتبه، وتولد دون استئذان، وفي أجل غير مسمى..ومتى توهم الكاتب أنه يمارس فعل الكتابة فسيبقى عبد النموذج المسبق، وأسطورة المثال الفني الأعلى..يذيب القش، والنحاس، والغثاء، ويصبه في قوالب انتهت صلاحيتها..لتخرج في أشكال لقيطة لا تنتمي إلا دنيا الفن بنسب شرعي..
ليس معنى هذا أن على القارئ أن يتبنى آراء الكاتب، فتنقلب القراءة التحليلية نوعا من السلخ، والرسم بالكربون...
ثراء النص يكون أحيانا بإمكان تعدد تأويلاته..
قرأت نص المختار السالم ودماء مشيمته تنزف، والمأساة أن عواطفنا، ومشاعرنا، وأفكارنا حين تولد تكون قد اكتملت، واستوت على سوقها، وصارت خلقا سويا، لذلك نُحرم طيشَ طفولتها، ويفوتنا جنون مراهقتها، فتنطمس فينا لذة التدليل، وترويض العجينة لنخلقها كما نشاء..
قرأته على طريقة: هل تعرفون أعنز مواسم النبق؟
وقفت عند العنوان طويلا: (خاثر العثرة)، (اسم فاعل مضاف إلى مصدر مرة) فجاء المصدر مجرورا لفظا، مرفوعا محلا..
وفي المرة معنى الندرة،(تذكرنا بكبوة الفارس) لأن الفعل وقع مرة واحدة، لكن هل كلمة خاثر استقدمها الشاعر لحاجة لاحقة، (ففَيْزاها) كما يفعل أصحاب الحسابات الحمراء (حاجة النزيف إلى التخثر)، حتى لا ينتصر الموت على الحياة..
أم أنه أراد أن العثرة وإن آلمت لا تعطل...
يخيل إلى القارئ من البيت الأول أنه دخل ميدان معركة: أدواتٍ: (السهم..الكنانة)..وآثارا: (الدم، اللحم،)..وذكر الشحم ويجانسه فعل الإذابة..وظل الشاعر محور الحركة بإنابة ياء المتكلم المضاف إليها أربع مرات..
لا شك أن الشاعر يعيش الواقع حلما وحقيقة، ولا شك أن مفردات المعركة اليوم مهيمنة على مشاعرنا، ومواقفنا، ولغتنا، مشاهد الدماء، والجثث التي حولتها آلة العدو هريسة لحم تغطي الأرض المدمرة..والخيانة، والخذلان..؟؟
لوح لي بين أوراق الضال والشيح، الشاعر الشنفرى، وسمعته يترنم، متبرما من الناس، وطباعهم، وغدرهم أحيانا:
ولي دونكم أهلون سيد عملس
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
هم الأهل لا مستودع السر ذائع
لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
يقول المختار السالم:
أهل هذا الزمان ما لهم إذ...!
يتغشون في مكاء ولطم
أهل هذا الزمان ليسوا بأهل
لنقاء الجراح بل أهل إثم
اصح يا صاح واجعل الريح أهلا
واستفز الرمل الكئيب ليدمي..
قرأت النص وعدت إليه، فوجدت فيه الإنسان المصر على وجوده، المستميت في شموخه رغم عوامل الطمر والإنكار..تذكرت فيه تفرد مطران:
متفرد بصبابتي متفرد بكآبتي متفرد بعنائي
ووجدت فيه بحر مطران:
شاك إلى البحر اضطراب خواطري
فيجيبني برياحه الهوجاء..
كان مطران مريضا فلجأ إلى البحر شاكيا..
مؤلم أن تكون صحتك سبب قلق..وعقلك مصدر توتر..
ضرب الشاعر البحر للنجاة، كما ضربه موسى للعبور..وإذا البحر يحتاج إلى أن يغتسل، وكم احتاج الطبيب إلى دواء، لكن حاجة الشاعر إلى أن يُكتَب، ويُنشَد ألح من حاجته إلى أن يَكتب، ويُنشِد...
ومن مظاهر التأزيم تقديم ما حقه التأخير، وتصدر النصوص من ذوات الاحتياجات الخاصة:
وأنا أجبر القوارير رجما
للفقاعات الساجرات بوخم
أحمل الحلم للمنامات ظلا
لا حرورا مزجى بلوثة غم
وهل يستوي الظل والحرور؟
انتبذ لا أنثى سترفئ صدري
والفناجين ما هممن بوشمي
يحمل الشاعر التعاويذ غرثى
لأنام يزيد يتما بيتم
عبث الناس بالقصيدة لهوا
كيف لا يفهمونها أي فهم
وقد مهد الشاعر لهذا الواقع الموجع، صراع الشاعر مع الغربة، وأي غربة أمر من الغربة في الوطن:
إن قاع الظلام أرفع شأنا
من غثاء البياض في ثوب غرم
التضاد بين الظلام والبياض، وبين القاع، وهو أسفل جزء من الشيء، والغثاء الذي يعلو، ويحمله السيل من قبائل غير مصنفة من الأوساخ..في البيت صورة غريبة للظلام النبيل، والبياض اللئيم..
شغف العزف لا يبلل أرضا
لم يشأ أهلها بيادر غنم
ولهذا ضربت في البحر وحدي
ثم وحدي غرقت فوق خضمي
الشعور بالوحدة القاسية، ألجأ إلى تكرار كلمة وحدي، لتكتمل الصور الحقيقية للحال الموجعة..
أغسل البحر بالمواويل شوقا
وارتقاء إلى مدار لنجم
الأصل أن نغتسل في البحر، ونغسل منه، لكن البحر الكئيب هنا يحتاج إلى أن يتطهر من أوجاعه، ومن آثام راكبيه، وبين البحر والشعر رحم قديمة جديدة، ظلت عصية على نزوات المنبتين، الذين يحاولون السباحة في اليبس..
وغناء إلى أبي ونشيدا
لنساء كن يشبهن أمي
وبين البحر والنجم تقابل فالبحر يمثل الظلام(ظلمات البحر) والانخفاض، والنجم يرمز للشهوق والضياء..
وذكر الأب بصيغة الحاضر، القريب، وأشير إلى الأم إشارة بُعْدٍ(كن) في الماضي، فكان الغناء إلى الأب لقربه في الزمن، وكان النشيد لنساء كن يشبهن الأم، وتعلق الشاعر بالأم جلي رغم تقادم العهد والذكرى..أما النساء فيذكرننا ب(العجوز التي كانت تزورنا في زمان خديجة)..
عبر الشاعر عن غربته في تلك الرباعية الجميلة: أغسل البحر...إلخ
فالوطن كله انحسر وصار (بحرا، وأبوين)، إنها الغربة المرة حقا.. وأصبح الجمهور أيضا هو هذا المحيط الصغير، الذي يستحق وحده أن يبثه الشاعر خواطره، ويُسمعه غناءه وأشعاره، لأنه وحده من صار يفهم..
ويختم بهذا البعد الفلسفي لظاهرة الفناء والعدم: يموت الكائن الحي إذا استوفى أجله، لكن الأديب لا يموت لبقاء آثاره..مات غيلان الرجل، وبقي غيلان الشاعر، ومات المعري الإنسان وبقي المعري الشاعر..ومات نزار الإنسان لكن نزار الشاعر لم يمت، له في كل حرف يقرأ اليوم وغدا عمر جديد..
يقول المختار السالم:
فإذا ما أمسى لك الدهر خصما
كان لا بد أن ترام بخصم
سيذوب الظلام مطلع فجر
كلما زف للفراشات وسمي
لا شك أن القارئ الكريم عرف جواب سؤالي الذي كتبته:
قرأته: على طريقة: هل تعرفون أعنز مواسم النبق؟