"خاثر" التَّحوُّر / عبد الله محمدن امون
كانت هذه الحروف مشروع تعليق على تدوينة للشاعر الأديب المرتضى محمد أشفاق ، تحدث فيها بأسلوب بديع ولغة باذخة عن ملمح من ملامح إبداع العميد للشاعر المبدع، والكاتب البارع، والصحفي المتمرس، المختار السالم أحمد سالم، لكن مداد قلمي بدأ فجأة ينزف تعبيرا عن بعد آخر للمختار السالم.
سأتحدث عن بعد متعلق بالطفرات الجينية والأنماط الفردانية التي تجعل الشخص مسخرا بشكل فطري لمساعدة الآخر، وهي وإن كانت مسائل لا يعرفها المشتغلون بعلم الوراثة وهندسة الجينوم إلا من خلال الملاحظة المجهرية، فإننا كأشخاص عاديين نستطيع تبينها من خلال التصرفات العفوية للأفراد.
المختار السالم من أولئك القلة الذين يحملون الشفرة الجينية المسؤولة عن دفع الشخص دفعا إلى مساعدة الآخر دون سبب مقنع، يعرف تلك الصفة منه المنتظرون على أبواب المحافل، الحالمون باعتلاء منصات التتويج، الموهوبو المظلومون المتسكعون على قارعة طريق الشهرة والانتشار.
كم من أولئك أخذ المختار السالم بيده وسحبه سحبا نحو مركز الضوء، و دائرة الاهتمام، كم منهم مهد له الطريق، وأضاء له الدرب، وطبع له بواكير الإنتاج، بعد أن أقنع الناشرين بموهبته.
صغار الكتاب، مبتدئوا الشعراء، حديثوا العهد بالعمل الصحفي، غالبية أولئك، للمختار السالم عليهم فضل وله في مسيرتهم يد.
ذاك هو البعد الخامس الذي يتجاوز به المختار السالم حدود النسبية.
لا أعلم شخصا غيره يبذل ما في وسعه ليخلق لنفسه من قد ينافسه في سوق الإنتاج الثقافي، إذ الأصل أن اشتراك الحرفة يورث التباغض، لكن تلك القاعدة ذات المرتكز الأنساني الغريزي، لا تنطبق على صاحبنا.
لا أعلم غيره يغضب من صديقه حد المقاطعة، لأن الصديق لم يكمل منتجا معرفيا يقول المنطق إن قيمه المادية والمعنوية عائدة إليه وحده، لكن المختار السالم سيظل يلاحقه ويرجوه حد الإلحاح ليكمل ذلك المنتج.
كنت أحد ضحايا تلك الخصلة الإنسانية النبيلة المسجلة الصبغ النووي للمختار السالم، كان خطئي الذي لا يغتفر أن التزمت له في لحظة طيش ذات دردشة واتسابية بجمع بعض النصوص وإرسالها إليه ليخرجها كديوان مطبوع، قلت إن الفكرة ستذوب مع الوقت كما يذوب مكعب السكر في فنجان القهوة، لكن هيهات، فقد كنت واهما، إذ ليس المختار السالم ممن تعطيه وعدا ولا تفي به، لقد برهنت لي تلك التجربة على صدق مقولة (الذي يعرف قونانيا لا يخالطه) لقد أرهقني الرجل بالاتصالات والرسائل الصوتية والمكتوبة مطالبا بالوفاء، ومذكرا بأن إخلاف الوعود ونقض العهود سُبَّة تزري بالمروءة وذنب يدخل صاحبه النار.
قلت في نفسي، ما ذا يريد مني هذا الملحاح، فأنا رجل تخصص في القانون أيام الدراسة واحترف إدارة الأعمال لاحقا كمصدر للرزق، وكلا المجالين يمثلان قوالب جامدة لا تمت إلى الأدب بأي صلة انتساب، ما علاقتي أنا بالكتابة شعرا ونثرا بعد أن انحسر الشعر عن جمَّتي، وتسلل الشيب إلى قذالي، أنا لست من أرباب القلم وعلاقتي بالحرف لا تعدو ظهور اسمي باهتا بين سدنته ضمن مجموعة واتسابية، لكن المختار السالم يصر على أنه أدرى مني بنفسي، فانقدت مذعنا غير مقتنع بعد أن استنفذت كل الأعذار، ولم أجد بدا من الوفاء بما تعهت به لذلك السائل حد الإلحاف.
صدر ديواني الأول ممهورا بتزكيات رفيعة من قامات فارعة في حقل الشعر والأدب، وبغض النظر عن القيمة المعرفية للمنتج الأول فإنه يخلق لدى صاحبه شعورا كالذي ينتاب الأب حينما يحتضن مولوده الأول، كل الآباء في تلك اللحظة ينتابهم شعور بأن ذلك الكائن الصغير المزمَّل في قطعة من القطن الناعم، سيكون له شأن عظيم، سيشتهر أكثر من جنكيز خان، وسيملأ الدنيا ويشغل الناس. لقد قررت تحت تأثير جرعة الحماسة الزائدة التي أخذتها في الوريد بعد حفل توقيع ديواني، تحت تأثير النشوة التي صاحبت رؤيتي لاهتزاز الصفائح الصغيرة للتربة الأدبية وهي تفتر عن أول نبتة لي في أرض لست من سكانها، قررت أن أغرس نبتة أخرى في نفس الحقل، فمن يدري، ربما امتلكت في النهاية مزرعة كبرى في أحد الأحياء المرموقة بمدينة الأدب، نعم، قلتها في نفسي، سأكون كاتبا، لا أدري كيف لكني سأكتب حتى ولو لم أمتلك من أدواتها غير لوحة المفاتيح. أسررت إلى المختار السالم بعزمي جمع شتات قصاصات ورقية متناثرة بين الأدراج المنسية وحقائب السفر القديمة، كانت تسجيلا عفويا لمحطات من تطوافي الذي غطى قارات العالم الست.
كنت قد علقت بعض تلك الوريقات على جداري المشيد على قطعة صغيرة معزولة في ركن قصي من عالم زوكربرغ، كان جداري حينها أشبه بقبر مجهول، لا يذكره ذاكر ولا يزوره زائر.
تلقف المختار السالم فكرتي بل وتبنى تنفيذها تنسيقات ونشرا، لكنها غير جاهزة قلت له، فرد علي بحزم، أعطني الجاهز منها لأنشره في جزء أول ونستكمل الباقي في جزء ثانٍ أو طبعة ثانية، المهم أن نبدأ.
ماطلت طويلا متعللا بالمشاغل وألح هو كثيرا متسلحا بإصرار لا يلي، صدر الكتاب متضمنا بعضا من سردياتي التي ولدت غصبا قبل أن يكتمل نموها، لكن المختار السالم بإلحاحه المستمر وضعني في جو من الطلق الصناعي و لم يترك لي خيارا غير إنجابها بشكل مبكر جعلها خدجاً في نظري.
وتمضي الأيام فتأتيني مما وراء البحار أخبار بأن كتابي الذي اعتبرته سلعة رديئة منسية على أحد رفوف البضائع المزجاة، ذلك الكتاب عينه كان محل تناول في رسالة جامعية لنيل شهادة الماجستير في الأدب، باعتباره أحد أبرز النماذج الحديثة في أدب الرحلات، مع أني-يشهد الله- لا أعرف معدة الرسالة ولا المشرف عليها، بل إن الطالبة غير موريتانية أصلا والجامعة نفسها في إحدى الدول التي لا تربطنا بها حدود، قلت في نفسي لعل الغلاف الجميل الذي صممه ذلك الملحاح كان السبب وراء اختيار الباحثة لمنتجي المتواضع، ولابد أن المسكينة ستدفع الثمن غاليا يوم نقاش الموضوع،
لكن الأخبار تصلني بأن الباحثة حصلت على امتياز في رسالتها وأن لجنة النقاش أثنت على اختيارها لكتابي.
تذكرت مقولة ذلك الگناني العنيد التي طالما كررها على (آن أخبر منك فراصك)
أيكون ذلك ناتجا عن أن رؤية الأشياء بشكل أوضح تتطلب النظر إليها من مسافة تضمن انعكاسها بشكل كلي على مستقبلات الضوء ؟ ربما، لست أدري.
تنفست الصعداء قائلا، بعد صدور الديوان والكتاب سأستريح من اتصالات المختار السالم وأسئلته المتكررة، لكني تذكرت بأني كنت قد أخبرته ذات مرة عن مسودة كتاب لي بعنوان (ألفيَّة البيوع المحرمة) وتعمدت إخفاء الأمر عنه حتى قارب الكتاب على الانتهاء اختصارا لفترة الإلحاح في السؤال عن مصير الكتاب كل يوم، فالرجل مهوس بدفع غيره إلى الإنتاج والعطاء كأنما للمعرفة عليه دين واجب السداد.
قد تتساءلون لم يفعل ذلك، أقول لكم إنه هو نفسه لا يعرف السبب، إنما هي خُلَّة ولد بها فلازمته.
هناك أشياء تحدث هكذا دون أسباب أو مبررات، إنها أشياء لا تحتاج قرارا مسبقا من صاحبها وإنما تتم بشكل ذاتي تماما كما تعمل عضلة القلب، فكما لا يحتاج المولود دروسا تحضيرية كي يلتقم حلمة ثدي أمه، ولا تحتاج الأمواج تدريبا مسبقا لتتكسر على شواطئ المحيطات، لا يحتاج المختار السالم حافزا ولا ينتظر سببا كي يسعى في اكتشاف المغمورين من أصحاب المواهب المدفونة، أو يحقن الكسالى إلخاملين بجرعات مركزة من محاليل الايمان بالقدرات الذاتية، والرغبة في التخلص من جرثرمة العقم الإنتاجي، هواية المختار السالم المفضلة هي العناية بالفسائل الصغيرة المهملة في زوايا الواحة الثقافية، يتعهدها بالسقي والرعاية حتى تستقيم باسقات لها طلع نضيد.
رن هاتفي فجأة فالتقطته متوقعا صفقة مع زبون ما، لكن المختار السالم على الطرف الآخر، خيب أملي قائلا دون مقدمات (أيو السلام عليكم، انت لكتاب وينهو؟ ) فقلت في نفسي وأنا افتش عن عذر جديد (يا مولانا لا وسيتهالي، ذا ابلا مول)