قراءة في ديوان "أشياء في مهبّ الاحتمال" للشاعر محمد المصطفى العربي

  • Posted on: 4 June 2025
  • By: admin2

محمد محمود محمذن أحمد عالم

 

في البدء، ترك الأشياء صاحبُها في مهبّ الاحتمال، وانصرف… تاركًا إياها تتراكم داخل القصيدة كأنها ألواح ودُسر مليئة بالأحداث المشوّقة، وأحاديث النفس الصارخة. ثم جلس على مرتفع القلق، يشاهدها وهي تصعد، فيتقبّلها ربُّها قبولًا يليق بالشعر اصطفاءً.

واصطفاءُ أنبياء الشعر يختلف عن الاصطفاء، لأنهم يُبعثون في عالم من الأشياء المحتملة، التي تتقمّص المرتقَب في أول قارئ.

دخلتُ إلى "الأشياء"، ولولا أن "رهائن الاحتمالات لا تُهدى" – كما يرى صاحبها – لكانت هدية الاحتمال لي وحدي؛ لأنني أحد تلك الاحتمالات التي طُرحت مرة، وتغيّرت معها البوصلة كلّما تغيّر مسار القصيدة.

في هذا الديوان، نلحظ حضورًا مدهشًا لـ"المديحي في المحبوب صلى الله عليه وسلم"؛ فهو استنشاقةٌ مرهفةُ الإحساس، ونفحةٌ من شاعرٍ تمسّك بسُنّةِ الحُبّ، وانسكب بها شعرًا.

وبعد تلك النفحات النبوية، يغيبُ "الممسوس" في حقيقة القصيدة، ثم يعرّج بنا في "حديثٍ مع الوطن"، عبورًا موفّقًا إلى "رؤيا"، بعد نجاح "صفقة العبور".

يتدفّق الشاعر "تدفّقًا" يتجاوز "التشتّت" الأخير بين "النجوم"، مُعلنًا عن "انتفاضةٍ" أخيرة عظيمة، تنتهي عند ملتبس "الكحل المعجزة"، غير مكترث بـ "صافرة الرحيل".

إنه يفتح بـ"الانتفاضة" بوابةً نحو "مداءات الوعي"، و"رسوًّا على ضفة التاريخ"، أو "عزفًا على وتر العُشب"، أو "سؤالَ تشظٍّ!"، أو "ارتشافةِ صيف"، أو حتى تفسيرًا لـ "أبجدية المعراج"، كلّها إشارات إلى كتابةٍ مشبعة بالرؤيا والوجد، مضمّخة بـ "بخور الرفاهة"، الموقَد في "حانة الضوء"، منذ البدء.

هذا الضوء يضيء "خدوش الحاضر" في وجه الشتاء، على "أنغام الخطا"، قبل "ذوبان الأرصفة"، اندلاعًا في منطقية "احتمال" الأشياء، قبل "وداع الإبداع"، وهي تستعد لـ "موعد مع أنثى الشعر" وسجودٍ في ذات الموعد "للآثمين فم العروج مآبًا".

كلّ القصائد في هذا الديوان ليست مجرد لحظات كتابية، بل لدغةٌ حيويةٌ مفعمةٌ بالحبّ والفلسفة والتناسق في اللغة والحياة.

إنه ديوانٌ تدب فيه الحياة منذ أبياته الأولى: من "الممسوس" حتى آخر صكوك الغفران لمذنبٍ بكى شعرًا، فأعشبت القلوب القريضَ.

كما أنه:

ممرّاتٌ مقلقةٌ للشاعرية، رصيدٌ مدهشٌ للكينونة؛ سفرٌ موفّقٌ في دروب المجاز.. يقظةٌ بارزةٌ لأظافر الذوات: ذات الشاعر، ذات الإنسان، ذات المواطن، ذات المحبّ، ذات المتصوّف، ذات العاشق... ذات محمد المصطفى العربي.

هذه القصيدة، "حضور"، للشاعر محمد المصطفى العربي، هي قصيدة مديحيّة حداثية تُزاوج بين المعاني الروحية والتجليات الصوفية، وتُبنى على صور مركبة وانزياحات لغوية عالية، تتخذ من الحبيب المصطفى ﷺ موضوعًا، ومن الوجد والافتتان طاقة شعرية دافعة.

 القصيدة بوصفها طقسًا صوفيًّا ولغويًّا

لما تفتح في الغيمات مصحفه

تناغمت مطرا في الأفق أحرفه..

في هذا المطلع، تتحوّل القصيدة إلى مصحفٍ متعالٍ، يفتح في الغيم – أي في العلو الإلهي – وتنزل أحرفها كمطرٍ مقدّس، وهي استعارة تجعل من الكلمات مطرًا دالًا على الرحمة، تمامًا..

خطى يسافر دهرا دون خارطة

وكلما قاته المعنى يكثفه..

هنا، يصبح المعنى كائناً يتحقق فجأة، وتتحول الخطى إلى رحلة روحية بلا خارطة، في تجلّ صوفيّ بالغ.

 من الصور المضيئة إلى المعاني المدهشة..

الله صبَّ بحور العلم في يده

فأشرقت من فم التفسير أسقفه..

هذه من أجمل صور القصيدة.

فالشاعر يصف الحبيب ﷺ بأن يدَه مصبوبٌ فيها بحور العلم، ثم إن فمَه حين يفسّر تشرق الأسقف، وهو تصوير قدسي لجمال النطق النبوي.

 تجسيد الحجر وتأنيس الجماد

كم ارتدى الحجر المكي حَنجرة

إذ في تحاياه لفظ ظل يذرفه

البيت يعيد القصص النبوي عن تحية الجمادات للنبي ﷺ، ويصوّره بلغة حداثية: الحجر ارتدى حنجرة، وتحاياه كانت لفظًا يذرف الدموع تأنيس عجيب وكثافة وجدانية نادرة.

 

 الخاتمة وتحوّل الذات إلى يعقوبية..

و بي محبة يعقوب و دمعته

لما تسلق طور الهجر يوسفه

إذ يصعد الشوق بي نحو الحبيب على

مدادِ حبرٍ تخيط الوصل أحرفه

يختم الشاعر بحالة وجد وذوبان، إذ يجعل ذاته يعقوبية التعلّق، ويوسفه هو الحبيب المصطفى ﷺ. الطور هنا رمز للتجلي، والمداد يخيط الوصل، في نهاية شعرية مشحونة بالعاطفة والرمز.

 

خاتمة التحليل

قصيدة "حضور" أكثر من نص مديحي، إنها ارتقاء لغوي وجداني يجعل من اللغة وسيلة وغاية للاتصال بالنور المحمدي.

فيها تتلاقى الرموز الصوفية، والقرآنية، والبلاغة العربية، والشاعرية المعاصرة، لتمنحنا "مصحفًا في الغيم" يتنزل على قلوب العاشقين لا العقول وحدها..

نشر بتاريخ: 04-06-2025 22:44