خطاب التنصيب

إخوتي وأخواتي أدباء الوطن وكتابه

السلام عليكم ورحمة الله 

اسمحوا لي أن أبدأ - بعد حمد اللـه سبحانه - بتوجيه الشكر الخالص المستحق الموفور إلى معالي الوزير، وأن أحييه وأحيي أعوانه في الوزارة على ما بذلوا من جهد لمواكبة أدباء الوطن وكتابه في مسعاهم هذا، برعاية حانية وعناية ضافية... 

شكرا لكم صاحب المعالي.

شكرا للجنة إعادة الهيكلة برئاسة معالي الأستاذ بونا عمر لي.

شكرا للجان المنبثقة عن المؤتمر الاستثنائي واللجان  التحضيرية لمؤتمركم هذا.

تحية لإخوتنا الأدباء في الطرف الآخر، وهم  يعقدون اليوم مؤتمرهم التأسيسي الأول، مؤتمر الاتحاد الموريتاني للأدب الشعبي {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته}.

تحية للقيادة السابقة، بل القيادات السابقة للاتحاد. أحييها مكبرا لكل منها ما أنجز، كابرا عن كابر، خلفا عن سلف.

أحيي الراحل الكابر حقا الرئيس محمد كابر هاشم تغمده اللـه بواسع رحمته. أحيي أخوي الرئيس عبد اللـه السالم المعلى والرئيس محمدو احظانا، وأحيي كل أعضاء الاتحاد وأعضاده الذين شب بهم عن الطوق وبلغ بهم الأشد.  

تهنئة لكم إخوتي أعضاء المكتب التنفيذي وأعضاء مجلس الاتحاد وأعضاء المجلس الاستشاري، كان اللـه في عوننا وعونكم.

وأنتم إخوتي وأخواتي أدباء الوطن وكتابه، أحييكم وأرحب بكم وأشد على أيديكم، وأشكر لكم ثقتكم الغالية. 

أحييكم وأنتم تتداعون لإعادة التأسيس ومواصلة المسيرة في كنف التوق إلى المزيد والعرفان بالجميل لكل من وضعوا في صرحكم هذا لبنة ما وإن صغرت. 

أحيي الفرسان الذين كان من حقهم وبإمكانهم أن يخوضوا سباقا انتخابيا نزيها ونقيا، وقد قرروا  بملء إرادتهم أن يتنازلوا عن خوض هذا السباق، لكي يرسموا في ملتقاكم هذا لوحة وئام ووحدة وانسجام، لكل منكم فيها بصمة وتوقيع. أفكر على الخصوص في إخوتي محمدو احظانا وأحمد الوالد وعبد اللـه السالم المعلى ومحمد ناجي أحمدو، ومحمد إبراهيم محمدنا وكل من كان في نيته الترشح، فما من هؤلاء أحد إلا هو أحق مني بالقيام في مقامي هذا بين  أيديكم.

 

إخوتي وأخواتي الأدباء والكتاب

هذه اللحظة لحظة بهية بحضوركم بهيجة بثقتكم، لحظة ذات نكهة مفوحة بأفاويه الأدب والكتابة والإبداع ووحدة الصف، لكن صدقوني إن قلت لكم إنني لا أعرف لحد الآن كيف أتذوق نكهة هذه اللحظة، كيف أتحسس بهاءها، كيف أتنسم عبقها...

ينغص علي هذه اللحظة أن حوز ثقتكم الغالية تطلب تنازلات ممن هم أحق مني شخصيا بهذا الأمر، ممن هم به أحدث عهدا، وهم له أكثر أهلية، ولهم فيه من المطامح المشروعة ما ليس لي فيه، فكم وددت لو أن أحدهم تولى عني حمل هذا العبء الثقيل، أو أقنع غيري بحمله. 

 ينغص علي هذه اللحظة أنكم أوقفتموني بربع طال عهدي به حتى أنكرت رسومه، فقد تغيرت ملامحه وتبدلت أعلامه، لا هو هو ولا الأيام أيامه. نعم تغيرت إلى أفضل وأوسع وأفسح وأفخم، لكنني ألفته يوم عرفته، على نحو آخر، فتى حدثا خفيف الحاذ، فأنى لي ألا أستوحش ولو قليلا...

فيا عهدنا بالخيف هل أنت عائد *** ويا أنسنا بالجزع هل أنت آيب 

وهل راجع ‌عصر ‌الشباب الذي انقضى *** وقد شيبت سود الشعور الشوائب. 

ينغص علي هذه اللحظة أنني ما زلت أحاول أن أفهم. لماذا أنا هنا اليوم..

لماذا تريدون أيها الأدباء والكتاب أن تعيدوا عقارب ساعاتكم إلى الوراء؟

لماذا انتدبتموني لمهمة لا أجد لحملها في جعبتي إلا سهاما موجعات من سوالف الذكريات؟

هل باستطاعتكم أن تعيدوا إلي شبابي الذي حملت فيه حلم الاتحاد، مع آخرين منهم من عبروا وغبروا، ونحن على آثارهم عابرون، عما قليل غابرون؟

هل هي تطويحة من تطويحاتكم في سماوات الخيال؟

أإلى هذا الحد تكذبون التوحيدي الذي قال في إحدى مقابساته إن إنشاء الكلام الجديد أيسر على الأدباء من ترقيع القديم... وهل نحن إلا كلمات شاردات؟ وما حاجتكم إلى كلام مكرور معاد؟

 لن أبكي تلك العصور الخوالي، فإنني لا آسى على ماض تولى، ولن أقول مع الشاعر المتمني:

ليت وهل ينفع شيئا *** ليت شبابا بوع فاشتريت
 ولن أقول:

ألا ليت الشباب يعود يوما *** فأخبره بما فعل المشيب.

ولكنني أقول: 

خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا *** لغادرت شيبي موجع القلب باكيا

 

وما مشكلتي اليوم إلا أنكم تحاولون أن تعيدوني إلى صباي، وهيهات وهيهات! وتريدون أن أتعرف رسوما وقسمات حالت بيني وبينها سنوات وسنوات، فلا تلوموني إن سألت بأسى وحيرة: أأنت يوسف؟ 

بل لا تلوموني إن أنا أصغيت إلى ميسون وهي تنشد بحنين وأنين: 

لَبَيتٌ ‌تخفقُ ‌الأرواحُ فيه *** أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ 

ولُبسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيني *** أحبُّ إليَّ من لبسِ الشُّفوفِ 

لا تلوموني إن أنا أرهفت سمعي إلى تلك الأعرابية المدللة وهي تشكو بثها، وقد استوحشت القصر الذي نزلت فيه:

وما ذنب أعرابية ‌قذفت ‌بها *** صروف النوى من حيث لم تك ظنت 

تمنت أحاليب الرعاة وخيمة *** بنجد فلم يكتب لها ما تمنت 

إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه *** وبرد حصاه آخر الليل حنت 

لها أنة عند العشاء وأنة *** سحيرًا ولولا أنَّتاها لجُنَّت 

نعم، 

وَمَا وَجْدُ أعرَابيّةٍ ‌قَذَفَتْ ‌بهَا  *** صرُوفُ النوَى من حيثُ لم تكُ ظنّتِ

إذا ذكَرت نجداً وَطِيبَ تُرَابِهِ، *** وَبَردَ الحصَى من أرْض نجد أرَنّتِ

 بأكْثَرَ مِنّي لَوْعَةً، غَيْرَ أنّني *** أُطَامِنُ أحشائي على ما أجنّتِ

لا تلوموني - وقد دخلت كهفا، تطاولت بي النومة أو الغيبة فيه - إن وجدتم عندي ورقا غير نافق في المدينة، مدينة الأدب الجديدة التي شدتموها بلبن من حبر ويراع.

لا تلوموني إن أنا لم أحسن تذوق نكهة هذه اللحظة، والحال أنني أدرك أثر الغربة والبين وشحط النوى وطول العهد في تعرف الديار والربوع. 

لقد غبت عن موريتانيا سنين عددا. وقد حفلت الساحة بحمد اللـه بالعشرات بل المئات من المبدعين، وأخشى ألا تسرع  إلي أسماؤهم وصفاتهم، وأن أتهجى أسماءهم على نحو ما تهجيت ذات يوما، تقليدا لغيري، اسم محمد  محمدين، حين سئلت، وأنا في مهاجر عربي: عن موريتاني بهذا الاسم فائز في مسابقة عربية، فلم أحر جوابا، واستغربت أن يفوز بمثل هذه المسابقة مواطن من بلدي لا أعرفه. وما نفس عني كربة الجهل بالأعيان يومذاك إلا عميدنا الأستاذ أحمد عبد القادر حين سألته، فقال: لعله محمدُّ بن محمدن (ابن احظانا)... وقد كان. 
 

إخوتي وأخواتي الأدباء والكتاب

ليست الغربة التي تنغص علي هذه اللحظة البهية غربتي في الحاضرين فقط، ولكنها أيضا غربة افتقاد الغابرين.
نعم، ينغص علي نكهة هذه اللحظة، أنني أفتقد آخرين ممن كانوا معنا في خيمة الأعرابية. رحلوا.. ظعنوا..  وتركونا هنا إلى حين، ولكل أجل كتاب.
أتذكر الراحلين: تن يوسف غي، الحسن ديالو، جمال  الحسن، كابر هاشم، إسلم  بيه، فاضل أمين، عبدالله المختار، محمدي  القاضي وأحمد بابا ديده، من الجيل الأول من المؤسسين، أكرم الله نزلهم جميعا.
أتذكر آخرين، عرفناهم في منتجعات الأدب والكتابة، وقد غادروا من بعد. منهم - على سبيل المثال لا الحصر-: محمد عبد الرحمن  معاوية، محمد يعلى بدي، أحمد  بدي بن محمد المختار بدي، محمد بن عبدي، خديجة بنت عبد الحي، ديالو إبراهيما، الشيخ بلعمش وأحمد فال أحمد الخديم.. والقائمة تطول بكل تأكيد.
هي فقط أسماء، أمثل بها،  لما يعتلج في ذهني هذه اللحظة، عساكم أن تتفهموا لماذا لا أجد سبيلا لاستمراء نكهة هذه اللحظة، البهية بحضوركم، والبهيجة بثقتكم.
قديما قال الغنوي:
تتابع أحداث تخرمن اخوت *** وشيبن رأسي والخطوب تشيب
لعمركما إن البعيد لما مضى *** وأن الذي يأتي غدا لقريب
وقال اخر:
إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم *** وخلفت في قرن فانت غريب
وإن امرء قد سار خمسين حجة *** إلى منهل، من ورده لقريب
أحرى، إذا كان قد قطع مسافة أطول. 

ثم إنه ينغص علي هذه اللحظة البهية البهيجة أنني اكتشفت من ضعف قوتي، وقلة حيلتي، ما لم أكن احتسب، كنت أظن أن الله سبحانه وتعالى -وأثق بذلك- منّ عليّ بالصمود في سنوات عجاف، وعفا الله عما سلف، وكنت أظن أنني استطعت أن أقاوم العديد من الإغراءات، واليوم أجدني، من غير إغراء - لأن المهمة التي تدعونني إليها، لا إغراء فيها، بل الرهبة منها، تغلب  الرغبة فيها... أجدني ضعيفا أمامكم، أمام ثقتكم، والحال أنني لست هنا طالب درهم ولا دينار، ولا قطيفة ولا خميصة، وإن كنت أردد {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير}.
يعلم الله أنني لم أتق أبدًا إلى مزاحمة من خلفوني في هذا الاتحاد، وأنجزوا فيه أفضل مما أنجزت، بل كنت ظننت انني أبرمت عزيمة، ألا أعود إليه، اكتفاء بمن خدموه أفضل مما خدمته، وارتقوا به أفضل مما فعلت، وها هي ذي عرى عزيمتي تنتقض عروة عروة، والله يعلم، ومن الحاضرين من يعلم، أنني -إلى مساء الأمس- ظللت أحاول المرة تلو المرة، والكرة تلو الكرة، أن ألتمس طريقا جددا، للخلاص من هذه الورطة الجميلة، التي وضعتموني فيها.
على كل حال، تنفست الصعداء -قليلا- عندما شعرت بأنكم صادقتم في نص النظام الأساسي الجديد على مادة تعتق رئيس الاتحاد من رق التسيير المالي، وقد سارعتم لي بذلك في هواي.
قد لا تكون النصوص التي صادقتم عليها -آنفا- هي الأفضل، ولا أكتمكم أنني صوت بالحياد، لا أدري إن كان صوتي قيد أم لم يقيد، وذلك أنني أتوق إلى الأمثل، في هذه النصوص، لكنها هي الممكن في اللحظة التي نحن فيها، وبكم -جميعا- نرتقي إلى ما هو أفضل وأمثل.

إخوتي وأخواتي، كتاب الوطن، وأدباءه
لقد كلفتموني، فأعينوني، لا أسألكم عليه أجرا، ولا أريد أن تجعلوا لي عليه خرجا، ولكن أعينوني بقوة. أعينوني -وإخوتي- الذين عهدتم إليهم بهذا الحمل الثقيل، أعينونا بقوة، فنحن بحاجة إلى أن نعمل معا، لنثبت أن الكتابة رأس كل صناعة، كما قال الشاعر قديما:
إن الكتابة رأس كل صناعة *** وبها تتم جوامع الأعمال
نحن بحاجة الى أن نعمل معا، لنثبت أن الأدب نسب، أبلغ من النسب؛
أدب بيننا تألف منه *** نسب والأديب صنو الأديب
بل: 
كن ابن من شئت واكتسب أدبًا *** يغنيك محموده عن النسب
نحن بحاجة إلى أن نمتشق أقلامنا، لنقاوم بها التدجين والتوحش والتهجين، لننير بها الدروب المعتمة، لنمخر بها العباب {على ذات الواح ودسر}، لنخوض بها معارك التحرير والتغيير والتنوير، لنمارس بها القيادة والريادة، لنكتب بها اسم وطننا هذا على جبين الشمس، شمس المعرفة والإبداع، شمس الكلمة الطيبة الصاعدة، شمس العمل الصالح المرفوع.
نحن بحاجة الى ان نعمل معا، لنبني في خيمتنا هذه وحدتنا، لنكون اتحادا، لا انشطار فيه، لنجسد ذلك الشعار العتيد العتيق، الذي رقمناه على أول بطاقة عضوية لرابطة الأدباء الموريتانيين.
أتعرفون ذلك الشعار؟! أريد أن أسمعه من أحد الحاضرين.
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا *** عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا *** أدب أقمناه مقام الوالد
شكرا لكم وعلى الله قصد السبيل، عليه نتوكل وبه نستعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.