الكلمة الضائعة للكاتب بديه ولد سالم

على قارعة الأمل تتصارع أحلام الفتـى سعيد..   توقّف علـى قمة كثيب مرتفع، بعد أن تسلل الإعياء إلى فخذيه.. اعتلى أصابع رجليه متمددا، اشرأب بعنقه مستطلعا في لهفة التائه.. باغتته هضاب صامتة موحشة، ملتحفة بالكثبان والأشجار.. انشقت قِربة من الذكريات.. الحيـرة .. الاندهاش في مدرجات أعماقه...: 

- يا إلهي.. ! أأنا تائه حقا..؟  كم كان شيخ المحظرة على حق عندما حذرني من الذهاب وحيدا..! ربما تعجّلت العودة إلى أهلي قبل حفظ "الكتبة" الأولى من قرة الأبصار.. لعله عقاب على مخالفتي لأوامر أبي.. نصائح أمي.. ليتني كنتطائرا، أطيـر الآن.. أمعِن في التحليق والطيـران، لأحطّ أمام خيمتنا، حيث شاشة التلفاز.."قرة العين"، "قرة الأبصار"..! يا إلهي.. كيف أنجو؟ أأعود من حيث أتيت...؟

   التفت بسرعة نحو الغرب، بدَت صفحة السماء مُـرمَـدة، وقرص الشمس المطلي بأحمر الشفاه، يوشك أن يتوارى خلف هضبة رمادية اللون منتصبة في نهاية الأفق المديد...

حاول التجلّد والتماسك.. أخذ يحاور نفسه على وقع دقات قلبه المتسارعة..:

- آه ..! كم هي أرض موحشة..! يا إلهي.. ! كيف قطعتُ هذه المسافة الطويلة في غضون ساعتين أو أقل..! ليتني تذكرت "الكلمة الضائعة" التي قال عنها جدي الحكيم: إنها مكونة من خمسة حروف، وأنّ من تمسك بها لن يضلّ أبدا.. آه ! كم ضاعت من ذاكرتي..! لو تذكرتها الآن لكان الأمر مختلفا.. ولكن أين الذاكرة..!؟

سأعود.. سأعود حتما.. لا.. لا ...لن أعود.. لن أهتدي إلى طريقي، سيحُول الظلام دون تَقصّي الأثر.. يجب أن أواصل السير قبل حلول الظلام...!

  أصرّ سعيد على مواصلة السير بحثا عن أهله، عن أي حيّ آخر.. فكّر في إلقاء مِخلاة يحملها.. لكنه تذكّر قيمتها عند أبيه.. أحكم قبضتها بيسراه، ألقاها على عاتقه الأيسـر ، ليريح الأيمن.. تنفس بمشقة، مُستجمعًا ما تبقى لديه من قوة وتحمُّل.. انطلق جاريا.. فمهرولا.. يصّعّد الكثبان مستطلعا.. علّه يرى حركة.. أو يسمع صوتا... 

  أحسّ بـهبّة نسيم عابرة داعبت كتفه الأيمن، موقع المِخلاة الندي بالعرق.. لكن لطمها للكتف الآخر، أيقظ في نفسه أحاسيس أخرى.. لكمات مؤلمة تلقاها في طفولته الأولى.. من معلمه.. من صاحب السيارة، عندما يروق له أن يتعلق بمؤخرتها نائشا.. ذكريات تترى.. خواطر تزدحم.. تعصـر قلبه على إيقاع الهرولة...:

- آه.. لو أنني تذكرت الآن "الكلمة الضائعة" ولكن أين الذاكرة؟

- يا إلهي .. كم أخشى الظلام.. الظلام..! أيحل الظلام.. وأنا وحيد  تائه لأول مرة في هذه  المهامه...! ؟

- يا شيخنا.. كم كانت أمي تناديك: يا شيخنا ارفع رأسك.. أتسمعني يا شيخنا؟ أتـذكر أيام كنا في "الكزرة" محلقين على شاشة التلفاز، عندما تعرض "مراد" بطل المسلسل التركي، لحـــــادث اختطاف..؟ أتذكر كيف صرخت أمي ملء حنجرتها يا شيخنا ارفع رأسك...؟ 

- كم أشعر برغبة في الشراب.. بوخز مؤلم في الخاصرة.. بثقل متصاعد في القوائم.. بركض متواصل في الصدر.. يا إلهي...

لم أعد أطيق الهرولة في الرمال..! ما ذا أصنع...؟ 

***

      بدأ الظلام يلتهم الشفق بسـرعة.. تحولت الأشجار، الحفر، الربى.. إلى كتل سوداء متململة.. صفيـر رياح السّمُوم في الأغصان شكل أصواتا شبيهة بأزيز الخطر في مسلسل "مراد علم دار" ..!

أهو صوت عفريت من عفاريت الجان؟ أم عفريت رقمي!؟ أم مارد من خارج الكوكب.. ؟ آه.. لو تذكرت الآن الكلمة الضائعة التي أكّد جدي الحكيم أنها مضادة للعفاريت "Anti-Evrut "..!

كم أشتاق إلى ترانيمه الشجية، عندما يستلقي على قفاه أمام الخيمة، يسامر القمر والنجوم.. وهو يردد:

وبَعْــدُ فاعْلَــم أنَّ خيــرَ ما اقتفَــى **   ذو همــةٍ ســيرةُ خـــيرِ مُقـتــــفَى

تنفّس سعيد بمشقة عندما تلقى إشارة تخفيف السـرعة من الظلام الحالك.. من الأصوات المرعبة..! حوّل المخلاة إلى عاتقه الآخر، وهو يُمعن الإصغاء.. لكنه يخشى الأصوات المهموسة.. يتمنى لو يلمح خيمة أو ضوءا.. لكنه لا يطمئن للأضواء الشاردة.. أو الشجيرات الملتحفة بالظلام.. حكايات الأم.. أقاصيص الجدة عن الجان عن الغول.. تخرج من أكفانها..! أفلام الشاشة المرعبة: " صرخة من القبور.. أبـــــــواب  جهنم.. ملكة اللعنة.. مصاص الدماء.. مذبحة منشار تكساس.. بيت على تلة الأشباح.." أفلام صاخبة تجوب ذاكرته ذهابا وإيابا.. كالباعة المتجولين في "نقطة ساخنة"..! ذكريات عاصفة.. تضايق ذهنه.. تفتك بتجلّده وتماسكه.. حاول أن يعزلها عن ذاكرته، لكنه لم يستطع.. فاجأه صوت هامس، غريب، يردد بهمهمة:

عف.. عف.. ريت.. ريت...!

خفق قلبه بسرعة.. عمت قشعريرة جسده.. انغرس في مكانه.. بادر يتلو:

بسم.. الله.. الرحـ.. الرحـ...

لم يستطع إتمام البسملة.. حرف الحاء لم يكن سائغا.. ربما لجفاف حلقه، أو لضياع "الكلمة الضائعة" من ذاكرته.. الكون صار كتلة واحدة..! تنمّل الكتفين وجلدة الرأس لا يكف عن مضايقته.. التفت إلى الخلف دون إمعان.. شاهد جسما غريب الشكل، ضخم البنية، أرقط اللون، تتراقص على رأسه فتائل رمادية، تقاس بالأذرع...!

تحول قلبه إلى دقّات مِـهراس ظئر على مدقتـين.. عادت القشعريرة من جديد لتسلخ جلده.. حاول القفز.. الفرار .. وركبتاه ترتعشان.. ليبتعد ويتوارى.. لكن رجليه انغرستا أكثر في الرمال.. حاول أن يغض بصره عن المارد الغريب.. لكن عينـيْه بقيتا شاخصتين متحجرتين...!

تراءت بروق من  الذكريات، أشبه بوصلة إشهار بالعرض السريع:

حنان أمه.. دفء جدته.. احتضان أبيه له.. ضجيج رفاقه في "الكزرة".. تقليد أخيه الأصغر لصوت " زازا"، ومـِشية "ميماتي".. صوت أخته البلبلي.. الملقبة بأرشيف الممثلين الأتراك.. عندما تنفرد بالتلفاز، أو مع جوالها...!

***

بدأ الجسم الغريب يتحرك.. يتقدم.. يقترب بتؤدة.. مال مُتمسحًا بشجيرة مرخ.. كفحل إبل هائج يود الهجوم على منافسه.. أخذ يردد بهدير رعدي متصـاعد..:

عف.. عف.. ريت.. ريت.. ريت...!

انصعق سعيد في أعماقه.. انزلقت المخلاة من قبضته.. أغصّته صرخة استعرضت في حنجرته.. أحس بثقل في التنفس.. بدوار في الجمجمة.. تهاوى على الأرض خرقة بالية.. دماغه حجرة ذات طقس ساخن، يتوسطها عزرائيل.. لسانه يردد متعثرا:

لا إله.. إلا الله..النجـ.. النجدة...

وقع أقدام الكائن المارد جعل الأرض ترتج من حوله.. فتّت آخر ذرة لديه من الأمل.. أخذ يصارع الموت.. يتخبط برجليه ويديـْه.. يريد أن يقبض شيئا.. أي شيء يلجأ إليه، يضمه إلى صدره...

صادفت يده المخلاة.. قبضها قبضة الغريق.. جذبها جذبة المصروع.. انفلت منها كنّاشٌ.. أوقع صفعة قوية على خــــده الأيمن..:

طــيْ.. طــيْ.. طيْ..!

ارتسمت أمامه ابتسامة جده الحكيم.. عندما يسترسل في الحديث عن الرسول الكريم، وأيام العرب.. تذكر إصغاء الحاضرين ووجوههم تنضح بالبهاء والإشراق.. تململت ذاكرة الفتى.. اهتـزت وربت..أخرجت أثقالها.. أبدت أحرفًا جديدة، ربما تقود إلى الكلمة الضائعة المفقودة، ومفتاح الفرج المنتظر..! ومحق العفاريت الأرضية، والفضائية، والرقمية.. إن تم ترتيبها بشكل صحيح..

تبين الخيط الأبيض، مُعلنًا طلوع نجمة الفجر الصادق.. تطايرت الفتائل من أعلى رأس الكائن المارد  في الفضاء السحيق..! انتفض الفتى جالسا، ثم واقفا.. تلمس صمغة قتاد كان قد دسّها في جيبه، التقمها.. راح مُهرولا نحو الحي، ولسانه يتـرنم بكلمة السّـر الضائعة بتـرتيبها الصحيح:

مـ   حـ   ظ   ر  ة