ضرس العقل، للكاتب محمد الأمين احظانا

لم أعتن  كثيرا بمعرفة عدد أضراسي.. كنت أعلم أنها قادرة على طحن كل شيء ساقه سوء الطالع للوقوع بينها.. نادرا ما يواتيني الحظ في تصفح وجهي في إحدى المرايا القليلة في الحي البدوي الذي أعيش فيه؛ إذ لاتتجاوز الثلاث، إحداها لا سبيل إلي النظر فيها، فهي ملك للعجوز المتصابية سلامة، وهي تنكر دوما أنها بحوزتها لمن أرسل في طلبها، تعلل قائلة لقد كسرها ذلك المارد محمد سالم، ومرة خطفها مني المجنون أحمد..  أما الثانية فهي متاحة لكنها لاتتجاوز حجم عين البعير؛ فأسموها "عين البعير"، وحين تنظر فيها إنما ترى ربع وجهك، وإن أردت أن ترى أسنانك فإما أن تنظر في الأعالي دون الأسافل، وإن فتحت فمك لترى أضراسك لاترى إلا نصف حلقك..الثالثة مرآة كبيرة عند أحد كهول الحي هي التى يقص عليها الرجال شواربهم ، ويهذبون لحاهم، ولا تكاد تستقر في مخبئها، لأن هذه العجوز تريد أن تنزع بها شعرة أو حصاة بعينها، وهي في الحقيقة إنما تتفقد آثار الزمن على وجنتيها، كما تريد لحفيدتها أن تجد الفرصة لإصلاح شأنها قبل أن يبدأ شباب الحي التسكع بين الخيام وقت الضحى.. حين يواتيني الحظ في الحصول على "عين البعير" لا أفوت الفرصة دون أن أكش كشة فأرى أسناني المتراصة، بعضها يغار من بعض لقوتها ومتانتها، ثم أفتح فمي لأتفحص أضراسي فإذا هي سراب يخطف ويلمع  متحفزا للانقضاض على أي مضيغ، أو لكل ما يقع بينها..
مشكلة الأضراس عند مراهقي هذا الحي البدوي الرحال أنها لا تجد غالبا فريستها إلا في بعض المواسم كموسم التمور، التي يذهب إليه الرجال في مجموعات (الكيطنه)، فيأتون بعد شهر وكل منهم كحبة البصل، خرج من جلده المهترئ فاشتدت عضلاته، جرت في رونقه دماء الصحة ومخائل العافية، وحين أسمع وزملائي المراهقين عن مجيء هؤلاء تقشعر حلاقمنا تحفزا لأي تمرة يسوقها سوء الطالع إلى أحضان أضراسنا اللامعة المشحوذة للمضغ.. هذا إذا كانت الضحية تمرة ناضجة، أما إذا كانت رطبا فإن المشكلة تختلف، لأن الحلاقم تتلقفها قبل أن تستمتع الأضراس النابضة بملامستها، فتهوى في البلعوم بسرعة الضوء دون أن نعرف أهي نزلت إلى البطن، أم طارت في الخياشيم..
 موسم آخر تنتظره الأضراس بفارغ الصبر وهو موسم حصاد الفستق السوداني (كرت)، ولأن هذه تجلب إلى الحي بكميات معتبرة فإن موسمها هو موسم امتحان حقيقي لشهية أطفال الحي الذين يمتصون أضراسهم ويتشجأون الخواء انتظارا لأي شيء يمضغ ، أو يؤكل..
كنت وشلتي نلعب بعد أن شبعنا من قراءة الألواح، وضرب المرابط الذي يدرسنا القرءان،ولا نخرج من خيمته إلا ونحن نشعر بنوع من الدونية والحقارة لا حد لهما، فهو يذكرنا دائما بأننا أوباش، وحمير، وكلاب ضالة.. المحظوظ كامل الحظ منا من تكون في ظهره ندبة أو ندبتان على ظهره يسيل منها الدم، أما الآخرون فيخرجون وهم كالحمير التي أشبعت بعضها عضا ونتشا، ترى المراهقين الكبار وهم يخرجون آذانهم مدلاة كأنهم تيوس أنهكها الضراب، وذبابة الخريف، وتشتت الماعز.. كل منهم ينظر إلى مصارين زميله التي تظهر من  تحت الجلد وكأنها رسوم بدائية بألوان غير محددة؛ ولتلك حكاية أخرى.. فحين يصل إليها بعض الغذاء، وما أقله أيام الصيف تحسب أنك رميت قطعة من اللحم لمجموعة من القطط الجائعة، فلا تسمع في بطنك إلا صراخ الأمعاء ، وضجيجها ، وهي تموء وتئن، وأحيانا تصرخ، ثم تخرس وكأنها عاصفة رعدية ملأت السماء ضجيجا فإذا السكون والعدم...إنها سلامه المتصابية تصرخ علينا، وكأننا قمنا بجريمة نكراء.. قلت لأصحابي هل فيكم من سرق مرآة هذه الشبوبة، التي تترنح كالبقرة العجفاء.. تنادوا والله ما فينا من سرقها.. لكن سلامه لم تكن تريدنا لهذا الأمر ،فمرآتها في منعة لا يمكن أن يصلها أحد، ولو كان يسرق الكحل من العين.. إنها تطلبني أنا وزميلي سالم لنقتل لها حية اكتشفتها نائمة تحت حصيرها، وحين وصلنا إلي خيمتها أخذنا قدوما ونفذنا المهمة بسهولة ويسر..
الفستق السوداني لا يكلف الأضراس عناء رغم قدرتها على أن تطحن الحجارة السمراء، فما يملأ الفم منه يتم طحنه في ثوان قليلة، وما يملأ اليد عادة تكفيه شدق واحدة، هذا إن وجد.. الحكايات التي يجترها الأطفال عن الأرنب والذئب، وعن  الأسد والفأر، وعن الدب البري ، والضباع، منضبة ومكررة.. لكنهم يتسلون بها مع ذلك انتظارا لتلك العصيدة أدامها قد يكون قطرة من لبن لا تكاد تصل نصفها، يلتهمونها قبل أن يعرفوا إن كانت من الزرع الأبيض أم هي من الذرة الصفراء، كما ينسون بهذه الحكايات ولو للحظات نكد قراءة اللوح، والذهاب إلى خيمة المرابط المقيتة..
قلت لنفسي، مرة استطعت فيها أن أختلس نظرة من مرآة سلامة لأضراسي المتينة المتراصة؛ بعد أن غفلت عنها: مادمت لا أجد ما أمضغه فما حاجتي إليك أنت أيها المهراس المتوطن في منعته بين هذا الضرس المتقدم وذلك الذي يليه، أنت والله أيها البرانى  تستطيع أن تفعل  العجب العجاب، إن وجدت ما تستأنس به!
أحسست بندبة وراء ذلك الأخير من الأضراس تحسسته بإبهامي.. أهْ.. ما هذا الذي أحس به؟ .. نتوء  تعلوه لحمة تؤلم.. يا إلهي أهو ضرس جديد؟ وما حاجتي إليه؟
حين قلت هذا لشلة من المراهقات تضاحكن، وسخرن مني قائلات: "إحمد والله إنها ضرس العقل، وأنت في أمس الحاجة إليها لأنك أحمق"..
قلت للتي تليني وكانت من أمضهن سخرية:
- هل حقا سأصبح عاقلا إن نبتت لي هذه الضرس، وهل سينفع ذلك في دفَق أسنانك التي تخرج عنوة شتاتا من بين شفتيك، وكأنها حرث شيطان مارد..
- بل ستنفعك أنت أيها القُبُحْبُحَانُ في لمتك الجعدة الحمراء المنتشرة بين أذنيك كأنهما أذنا أرنب، وهذا الأنف الأفطس كأنه أنف أبرهة يوم خذف بحجارة من سجيل.. ألم تتح لك فرصة النظر إلى عينيك الغائرتين كأنهما جحر يربوع، وإلى شفتيك الغليظتين اليابستين كأنهما قدا من جران عَوْدٍ أجرب..
- يالك من فتاة بذيئة؛ قميئة؛ دميمة..قلت وقد خرجت من عندهن وهن يودعنني بتعليقاتهن الساخرة..
- أخرج ياخدن البنات.. لايظل عنهن ولا يبات، يسقينه بول النفساءات.
كان هناك صوت ينبعث من تحت الطنب الشمالي لخيمة خالتي التي تتجمع فيها المراهقات، مئات الخنافس محشورة في آنية من حديد هي في الأصل وعاء لسمن سائل كتب عليه: " سمن سائل.. هدية من شعب الولايات المتحدة الأمريكية، ليس للبيع ولا للمبادلة"، وهو مع ذلك يباع ويبادل به، هذا ما سمعته من أحد الشباب قدم من بلاد السنغان (السينغال).. صب  بعض الماء على هذه الخنافس التي  تحدث خرمشتها وسط هذه الآنية ضجيجا متواصلا، لكنها في النهاية ستهلك ببطء..
أخذت الآنية ودلقتها على رؤوس الفتيات  وهربت، تقافزن كالفراشات ، وهن يصرخن ويشتمن..
أغرب أيها الوغد.. لقد بدلت في مهدك بأحد أبناء الجن..
ضحكت حتى آلمني بطني من شدة وطول ما ضحكت.. كنت ألمس بإبهامي ذلك الندب المؤلم وذلك الضرس التي سيجلب لي عقلا أنا في الحقيقة في أمس الحاجة إليه، وإن كنت غنيا عنه بأخواته فهن يستطعن طحن جبال "اظهر" إن كانت مما يؤكل، ولكن المشكلة أن الجبال لا تؤكل..
تلك هي المشكلة!
من أرشيف الشباب  (من مجموعة زورة الذئب القصصية)
بلنوارخريف1981م