الشعر الموريتاني المحكوم بالتزامن الوراثي / نتناول الشاعرة مباركة باته بنت براء

 

جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

  
    
 
 

بان الشعر الموريتاني غزير الانتاج في الحفاظ على القصيدة العمودية، ومن خلال هذا المسار التطوري ظهرت القصيدة الكلاسيكية التي تحتمل ترتيب تصريف الجناس الذي تخصصت به الشاعرة الموريتانية، حيث نجده واضحاً عند الشواعر المتفوقات في الصورة الشعرية الصوتية، في جوهرها المتحول الواضح نقاؤه وتبلوره في المقام الشعري العربي المعاصر في بلد اطلق علية تسمية: "شاعر المليون"، بتأثير نجاح أهميته التي أصبح لها منظور واضح ضمن النظريات النقدية الحديثة، ونرى تلك الصيَّغ تفيد في علاقة الإخبار عن طريق تمييز جنسه ببعضه البعض الدال على استحضار فصاحة التيَّم الدالة على المعاني المركبة، وما تحتاج إليه العملية الإبداعية من تراكمات تستدعي خصوصية مرجعيات لها تأثيرها المعنوي على التلقي، سواء أحس بها المتلقي أم لم يراع الانتباه، خاصة بعد توسع القصيدة النسوية التي برز وضوحها في مجال الجمع العلمي العربي، الذي برز تأثيره على الشعر الموريتاني، مع أن القصيدة النسوية بشكلها ومحتواها العام اجتهدت في التناصح الفني والنحوي بالقصيدة العمودية قديما وحديثاً، وقد كشف عن هذا التوجه دراسات عديدة منها دراسة الدكتور أبو بكر احميّد في محاضرته المكثر نشرها، حيث تحدث عن التماس الحداثي بمفهومه الذي خضع لتجارب عدة وهو في جملة جزئياته باختلاف ظروف الحالة الشعرية، وعلى ضوء ما تقدم وجدنا دعوته للنص الشعري الحديث: " يُفضل أن يُحافظ على النص العمودي بدلاً مما يكتب بالتفعيل"، مع أننا لا نريد أن نسهب في تعريف ينطلق من التبديل بين المفاهيم عند الشاعرات، لأن قدسية اللغة العربية توضح بكثير من الألفاظ التي تحتسب ميول الحرف لصوته، مع احتراف ينسج السماع الجمالي بوحدته يثير السماع الحني بتأثير صيَّغ اكتمال نظام تعزيز المباني، لأن الجانب الإيقاعي إن لم يعتمد تمثيل اللاقحة الفنية في سياق القصيدة من بدايتها وحتى نهايتها، لا تعتمده وحدة السياق من جميع جوانبه حتى لا يساء التواصل معها، وللتوضيح أكثر وأقرب تعتمد فنيات الصوت عبر محاور تفصيلية مثل البناء الحسي، والجوهر والنغمي، وتجسيد المعنى في الصورة الشعرية.
يتلازم تأثير الأسلوبية الفنية بالتلازم الحاصل في مسار التطورات الواضحة بين القديم والحديث بجغرافية النص وخاصة حين اكتمال النظام اللغوي في النص، حيث يعتمد الأسلوب الموروث كما هو معروف على الخطابة في الحماسة والتأثر العاطفي الشديد، بحكم تأثير العادات والتقاليد البدوية والاسلامية المنطوية على تأثير تلك الالتزامات العشائرية المزدحمة بالعامة، بينما نجد النص الحديث "التفعيل و النثر" بان توليده في المعاصرة النموذجية، بأثر الاهتمام العربي الواضح في بالأدب الأوروبي، بواقع مؤثرات التمدن المستورد، ولذلك جاء اختيارنا للشاعرة مباركة بنت البراء باعتبارها همزة وصل بين مراحل قديمة سبقت الشاعرة، ومراحل تطورات أوروبية حديثة شاركت فيها بنت البراء في بنيتها الأكثر اشتمالاً على نظام قصيدة التفعيل، المنظور بيانه في أكثر مرآة قصائدها الحلمية العاكسة مزاجها على الواقع الشعري العربي بالكيف والقيمة، تلك الأسلوبية التي ابتعدت بها الشاعرة عن التسجيع بواقع قصيدتها التي تركت آثراً إيقاعياً متميزاً وثابتاً في تأثيره على الحركة الشعرية العربية واساسها القارئ المثقف، مع أنها من الشاعرات الموريتانيات المتبعات، اللاتي استخدمن الاتجاه الصوفي ذات الفنية المدورة، وإذا ما قارنا شعر بنت البراء نجده شديدة الحرص بأثر الفارق بين شاعرات مصر أو الجزائر أو الأردن وسوريا، مما يتضح لنا أن في تيك الدول جيلاً قل إبداعه على غير ما هو عند الشاعرة الموريتانية، المحكم شعرها بتلك الترعة الجدية التي ميزت الحالة الشعرية.
1- أحميّد، أبو بكر: مقتبس من رأي إضاءات على الشعر الموريتاني تناول الشاعرة مباركة باته بنت البراء.
مجال التناصح في الشعر الموريتاني، قال أبو بكر احميد "كان الشعراء الموريتانيون القدامى يتكؤون على أشعار الجاهليين؛ لأنها تمثل عند المجتمع الشنقيطي القديم غاية البلاغة والإبداع، حتى أن البعض كان يُدَرس الناشئة أشعار العرب قبل القرآن لبناء ملكة الفصاحة"، وفصّل الكاتب احميد في آرائه ومواقفه عن مستويات التلاقي بين الشكل والمضمون الذي يتحد به المعنى، ضاربا أمثلة على ذلك من الأقدمين، وهو تناص يعيد إلى الأذهان بعث الأساليب الشعرية القديمة، حتى أصبحت تلك الشاعرية تتحد مفاهيمها بالواقع الصحراوي الحالي على مختلف الأصناف التي تمعن في متناول التناص ضمن الإحالة في تأثيرات الأسلوب البياني، الحيوي، وتطبيقاتها على الشعر الموريتاني المعاصر، مؤكدا أن تلك الشاعرية لم تكن تخضع للمناهج النقدية والمدارس الأدبية الملتزمة في دراسة تصريف الأفعال عبر صوتية قواعد صرف اللغة العربية ونحوها، فكانوا يقرضون الشعر دون دراية بالتصنيفات النقدية والنظريات الحديثة، ومع هذا فأن الشعر الموريتاني لم يكن يخفي الاتصال المعلن في قصيدة العصور القديمة، وكأن التزاوج بالعواطف والميول العشائرية والدينية له تأثير واضح على مفهوم التناص العيني في الشعر الصحراوي الطافح بالأسى بتأثير العوز المعيشي في ذلك العصر، ولكن ومع كل هذا التلاقي بين العصور القديمة والحداثة التي عمت الوطن العربي، فأن المنظور الشعري أخذ يراود مكانته الذاتية، خاصة في الجانب النقدي الحديث الذي أخذ يقيم التوازن الحقيقي بين النصوص الناجعة وبين ما يريد أن تكون شاعرة بفضل الآخرين.
ومن خلال المعيون في التوازن الأدبي عند الشاعرة الموريتانية نلحظ أن شعرهن هو الأفضل في المنطقة العربية، وهذه التطورات الحلمية تتفق تماماً مع الشاعرة العراقية لأنها الأفضل والأهم عربياً، وطبعاً هذه الأفكار التي نعلن عن صراحتنا بها من خلال الأمثلة التي قدمناها حيث تبين الفكرة المطروحة من توازن أبعادها، ومن أجل هذا وقفنا محبين على الجوانب الإبداعية في هذا البلد العربي، أما ما بان في الآداب العربية عامة في معيون الجناس الأدبي الآخر كالقصة القصيرة أو الرواية، نجد أن الشعر في شمال أفريقيا العربي اهتمت به المرأة اهتماماً واضحاً وخاصة في المغرب وموريتانيا في الجناس الشعري أكثر من غيره، وهذا المعيون الأدبي لا ضد له عند الكثير من النقاد العرب الأفاضل، الذين حققوا دراسات غاية في الأهمية تصاحب تحقيق الحق بين الشاعرات، والعزوف عن الإنكار أو النفي عند قدرة الشاعرة ذات الأهمية المؤثرة في الحركة الأدبية العربية، ولهذا ينبغي أن نوحد القرار النقدي ونعتمد على الاتجاه الثقافي في تحليل رأي الشاعرة بالحق الذي لا ضد له، من حيث علنية الوجود الثقافي، ووحدة الآراء، ونجاح النص، وقدرته على ميول القارئ، والعناية به من المراكز التعليمية على اختلاف ثقافته وميوله، فيكون المبدع قد حقق التوازن الشعري بقوة ثقافته وحالته الحيوية، خاصة بشرط أن تكون الشاعرة تحقق نجاحها واستقلاليتها من واقع ذاتها وليس بالتأثير المباشر من هذا الشاعر المعروف أو ذاك، لأن على الشاعرة عليها أن تعني حالتها الخاصة بالنجاح أي بوازع العلوم اللغوية وتلك أهم الخواص التي يجب التحلي بها أن يكون إفشائها اقتداء الذات أن تضع لها مكانة بقدر واضح ما بين الأدباء والحالة الثقافية عامة.
ومن هنا يمكن القول أن جماعة الأدب الموريتاني فضلوا أن يبقى أدبهم في جناسه الأكثر تداولاً بعد التواصل مع التجديد التدريجي في الحركة الشعرية العربية، وهذا الانتقال بقي محافظاً على سيرته الأولى، القائم على مفاهيم مشخصة يتعاقب تداولها عند شعراء السلف، مع أن البعض انشقوا عن هذه الفكرة، فأخذت القصيدة النسوية بخاصة تعبر عن التفكير القائم على ظهور ذو أفكار مجردة، في ميولها إلى ظهور الفترة التي جاء بها السياب حتى أتخذ الشعر العراقي ومن ثم المصري المنحى التجديدي، فأصبح واضحاً بعد أن دخلت الشاعرة العراقية نازك الملائكة على اتجاه التجديد في قصيدة التفعيل، فأصبحت إنارة مثلت الشعر النسوي العربي بالجديد الحداثي، خاصة بعد اعتناقها القصيدة ما بعد الرومانسية في قصيدتها: "قيس وليلى"، التي كُتبت على نحوٍ عاطفي بتأثير طبيعة القصة المعادلة للحب العذري، ربما بتأثير الصحراء التي احكمت في طبيعتها على الانضباط الذاتي، الذي ساعد على نحو متواصل لمعادلة الحب العميق المقيَّد والمفعم بالرومانسية، ومن ثم الواقعية المبكرة في قصدتها: "مرثية غريق" وفق الطريقة الإنكليزية عند الشاعرة "اليزابث سارا شيبارد" و "سارا هور"، والشاعر الإنكليزي " كيتس " وهنا يمكننا أن نشم فيه نكهة مشابهة في القصيدة الموريتانية ببعض من هذا عند نازك، لكن ربما قد يأتي تأثير نتفهمه يختص بالبيئة الدينية الضاغطة على الشاعرة العربية،
2- أحميد، أبو بكر: نفس المصدر .
مما جعلنا نحتكم إلى الصورة المشابه عبر مؤثرات القصيدة العراقية النسوية، رغم بعض مواطن الضعف، اهتماماً خاصاً حتى يظهر لنا تأثير أنصار القصيدة الحديثة على الكثير من الشاعرات العربيات، اللاتي اختلفن في زوايا متعددة بالاتجاه الذي يحدده معيار الشاعرة الثقافي، بعد أن نشرن قصائدهن في الصحافة العربية وخاصة في الصحافة اللبنانية التي اعتمدت حرية التعبير والنشر.
نتناول قصيدة الشاعرة بنت البراء من بوابة صبغتها الشعرية خاصة في قصائدها الوطنية منها، والعاطفية، الواقعية، التي تجسد الشاعرة بها صورتها الصوتية، مما دعاني الرأي المحايد ضمن دراستي المتواصلة للشاعرة العربية الأفضل، محباً إلى تحليلها بتبصير محكم، حيث تلاقح المفاهيم بدقة مع المعاصرة الذكية التي اظهرت تأثيرها على القارئ والناقد بآن، لأنها جعلت من معيون نصها المتزن بأسلوب رقيق ملخص من حنو واقعي، حتى بقيت تلك القصيدة موضع إعجاب وتقدير الكثيرين من معيون وحي قصائدها على نمط دائرة الهامها لتصبح على مستوى المعركة القومية ، لأن الشاعرة تولي نصها اهتماماً خاصاً وتظهر فيه كيف أن أسلوبها يلفت الاهتمام النابع من شخصها ومزاجها الذي ظل بنائه الشعري يعتني بالمسحة الجمالية المتقن أسلوبها بإحكام وكأن الشعر عندها يغني ويرقص، بعد أن جانست وضعه جنباً إلى جنب مع القصيدة العراقية وخاصة عند الشاعرة آمال الزهاوي، ولكن بصورة مستقلة بصبغة تناجي حالة الذات الواضحة في قصيدتها الذاتية، باعتبار أن شعر بنت البراء يمتزج بمشاعره المفهوم القومي، لأنها طوعت مهمتها نحو الجدية الوطنية في المواضيع التي أخذت تسود الشعر الموريتاني، نحو الطبيعة الإنسانية التي يمتزج فيها الفن الاحترافي الحيوي، بانفعال قبلي عاطفي وصوفي في منهجه وقيامه، وفي مجال التنسيق مع الأولين نستمع إلى أريان متشل يقول: " لدى رجوعي إلى القصيدة القبلية أحسست بأن هناك دائما سبب وراء كتابتها 3" حيث تفرض الشاعرة وجودها كشخصية مبدعة وخلاقة ولنقل خالدة، وهنا يستطيع المتتبع لأعمالها أن يلاحظ تأثير مستواها الشعري على القارئ بعد أن ميزت الشخصية الأدبية العربية شعراء وشاعرات على أنهم قدموا مفهوماً للحضارة العربية القديمة في العراق ومصر باعتبار التأثير الواضح على الحضارة العالمية أجمع.
ندخل إلى قصيدتها المعنونة:
كل الخطيئة أني لم أكن حجراً
وإن همَّ بني دنياي لي أرقُ
وأن لي في فضاء الحرف مدرعا
أسلو به كلما ناءت بي الطرق
ولي حقيبة شعر ظلت أحملها
فيها من الأرض طعم الأرض والعبق
فيها من الطلح أغصان مشاكسة
فيها من النخل أفنان لها عذق
رسمت كل حكايا الحب في لغتي
ألوانها الطيف والعناب والشفق
وقلت هاتوا من الأوتار أجملها
ليعرف الكون كيف اللحن ينبثق
ليعزف اللحن أنغاماً موهمة
لينصف القلم الموتور من عشقوا

3- ميتشل، أدريان: مجلة الآداب الأجنبية، العدد 79، ترجمة الموضوع صخر الحاج حسين، في مقابلة مع الشاعر الإنكليزي أدريان ميتشل، دار أتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999، ص13.
دنياي هذي حروف جد مثقلة
وريشة حبرها مستنفد قل أنق
وحيدة في ضباب الليل يسكنني
شوق المحبين أتلوه وأحترق
***
بناء على فكرة التوليد الشعري الانتقالي من حال إلى حال تميزت الشاعرة الموريتانية عن غيرها من الشاعرات العربيات باستثناء العراق بالفصاحة اللفظية في بناء الجملة الشعرية، من منطلق البهاء الايحائي الذي تمتلكه ميزتها الذهنية التي اختلفت بها عن غيرها بامتلاكها الحاسة اللغوية النحوية موصولة بالثقافة المعنوية، التي تثبت ذواتاً تتفق مع اختلاف النص تحاكي قرار الحالة التثويرية حيث يفضي بيانها الحسي عبر منشئات حداثية بين تصورات المضمون التوليدي، عبر نظم شعرية خلاقة في وعيها ولغتها وفنيتها، والشاعرة هنا تسلو في شعرها بعيدة عن همَّ بني دنياها، تنحو بحياتها إلى التوحد مع شعرها في قولها: "وإن همَّ بني دنياي لي أرق / ولي في فضاء الحرف مدرعا / أسلو به كلما ناءت بي الطرق" هي الشكوى التي تحاكي الذات، والحل عندها هو التوحد والانعزال مع الحرف العربي الذي تجد فيه اشتقاق للسلوى في حياتها إذا ناءت بها الطرق، وتستمر الشاعرة تستهوي حقيبة الاستطيقا المعبرة عن مفهوم علم المحاسن أن تجعلها رائدة الحبيب أو الصديق أينما حلت وذهبت، من الوضوح المعيون في حياتها أو شخصها بتشاد ملقحة تزن الجمال مع وزنها على شاكلة كل ما هو جميل في الحياة، فتصف وترسم نفسها بالطيف الشعري المنقح بالعناب والشفق الخاص بها، حتى أنها تتفرد بالميزة التي تثبت وصفاً حتى وأن كان مستعاراً يخاطب الآخر من أعلى منبر للشعر في قولها : "وقلت هاتوا من الأوتار أجملها / ليعرف الكون كيف اللحن نبثق" وكأنها تسرد تهجن الأجواء الفنية على أنها الأفضل والأوحد في مركزية البنية الفنية الشعرية بعد تمام بلاغتها.
والحق هنا واضح في صورتها الصوتية بإمعان ودقة في توحد المعاني التي تعدد مساقها وطبيعة جناسها، لكن الشاعرة اخفقت في البنية النحوية بعد أن كررت حرف: "اللام – ل " ثلاث مرات كان من المفروض أن تتجاوز هذا الضعف النحوي، وللتوضيح مع أنها كان بإمكانها أن تحرر الكلمات الثلاثة التي تبتدأ الجملة الشعرية من حرف " ل " في قولها: " ليعرف الكون كيف اللحن ينبثق / ليعزف اللحن أنغاماً مهوّمة / لينصف القلم الموتور من عشقوا" بينما الأصح أن تكون الجملة الثانية والثالثة على الشكل التالي:
فيعزف اللحن أنغاماً موهمة
حتى ينصف القلم الموتور من عشقوا
ولكي نبقى في سياق الابتكار الذي لم يعد ظاهرة جزئية بل أصبح حالة متفوقة يصاحب البنية التوليدية المتخيلة بنجوائها ومهواها، بعد أن تطورت حركية المساق في عصرنا على توسع التركيز بوازعها، وهو ما قد يرتقي إلى تتويج النص الشعري بإحكام تتحد فيه التيم على شكل عرفاني تتماسك بمعانيها الروحانية حتى تساق بتأثيرها على التلقي، وهذا الإحساس الشعري نجده واضحاً في جناسها المجدد، لذلك يحسب على الشاعرة أن تجعل من نصها يخضع إلى وحدة المضمون بالتلاقي مع الشكل، وذلك على مستوى تلاقح الألفاظ فيما بينها كوحدة تؤدي إلى التناسب الحيوي، خاصة وأن تركيز الشاعرة ينصب على شاعرية خاصة في قولها الذي تمم القصيدة بنجاح في قولها: " وحيدة في ضباب الليل يسكنني / شوق المحبين أتلوه وأحترق" وجدنا الشاعرة في هذه الشكوى المتمثلة بالشوق وهي تشجو إلى الغرام العذري الذي يناجي المحبين لعله يخفف من واطئة الوحدة عندها عبر التجلي والإنكشاف، الذي تعيشه في سياق استعارت له الحالة الواقعية ألا وهو ضباب الليل، وفي الوقت ذاته نجد المعنى يوصف الشاعرة بالاحتراق المعبر عن باطنها الخاص شديد الوضوح في مشاعرها، وكأنها تقول له ما قاله النفري: " لا يستقل من دوني شيء، ولا يصلح من دوني لشيء، فالقرب تعرفه بالوجود، وأنا الذي لا يرويه القرب، ولا ينتهي إليه الوجود4"، فيكون الشوق معبراً عن غرامها الصادق، لأن الناظم الحبي الذ يعذب صدرها ويحترق بين أحشائها هو الذي يكشف عن البواعث الغرامية في الحب الصادق، ولعل هذا النداء الحبي معيون على لسان حال الشاعرة، حيث تنفتح الألفاظ على استيعاب علنيتها.
ندخل محبين إلى قصيدتها الثانية التي تتحد مع موضوعنا النقدي وهي:
4- اليوسف، سامي اليوسف: مختارات من مواقف النفري، دار منارات للنشر، عمان – الأردن، الطبعة الأولى 1981، ص16.
مدينتي والوترَ
في ليلك الشجيّ يا مدينتي
عوالمٌ من الصّور
في ليلك المسكون بالآهات بالضّجر
ألامس الوتر
* * *
في ليلك الشّجيُّ تنثال أحاديث السّمر
في ليلك الصّخريّ حيث النجم في السّماء
قد غار حين الساكنون في الخفاء
تحلّلوا من النّهار
من مظاهر الرّياء
من صخب الآلة من دوّامة العناء
أُطلّ يا مدينتي لكيْ ألامس الوتر
أطلّ يا مدينتي ويهزأ البشر
* * *
تبدو الشاعرة بنت البراء في قصيدتها "مدينتي والوترَ" وكأنها واعظة تسهل احتمال الزمان "لَيْلُكِ" أن يكون جميلاً على المكان "مدينتي" تزين صورتها على أنْ تُجمل المكان بالصوّر الساحرة، بعد أن كان الزمان في مدينتها مسكوناً بالضجر، ففي الصورة التي تبتدأ الشاعرة قصيدتها وبواسطة الزمن إنها تُزَين مدينتها بعوالم من الصور الجميلة، ولكن في الصورة الأولى مباشرة جعلت من الزمن ذاته غير مريح بما ترغب ةتشتهي، وهذا مما يدعوها أن تلامس الوتر غير المعرف بحالته، هل هو الوتر الزمني أو المكاني أو الوتر الشادي بالشعر، أو بالملل، أو أن تجعل من صورتها الحسيَّة تكشف عن جمالية المكان وتلك هي "العوالم"؟ وتعني الاختلاف، وتبقى الشاعرة وهي تطرز البناء الشعري بناءً محكماً بالمجاز الذي تستعره لكي يتسق مع الوزن والإيقاع الموسيقي على أتمه، وهذه تعد ظاهرة شعرية تناولها شعراء الجاهلية، حيث أنهم وصفوا الحاكم أو الفارس بصفتين متضادتين تحتاج منا إلى تحكيم وتفسير في إحكام المناظرة، وفي هذا التعليل نجد الشاعرة تتواصل مع الصورة التي ليس في مثلها استبيان في توظيف حالتها البيانية، بواسطة التيم التي تحملُ معنىً يختلف عن معنى أخر بمفهوم الصيغة التي تحتمل أصل ينسب إلى جملة التشبيه في سياقها، فتارة تجعل الزمن مفرحاً يثير المتعة والبهاء والسمر، وفي تبيان آخر تحاور الشاعرة صرف يختلف بعنوان "ليلك الصخري" حتى تصل إلى صيغ تكشف عن مظاهر الرياء، مما يَجعل البشر الذين يقطنون تلك المدينة يتأثرون بمظاهر التحلل الاجتماعي في دوامة العناء، وفي هذا التكييف نجد أن ماهية القيمة النوعية للتحليل يختلف فيها سياق المضمون الذي طالما جعل من النص يصيب التميز من عدمه، لأن الناظم الشعري إذا خضع للتناقض في المعاني يغيب على الشعر باعث علم الفن والذوق، في إدراك الإحساس الوازن للخيال باعتباره المرسل الأساسي لحكمة الإدراك والذي يليق بوحدة المعاني، التي تجعل من بلاغة الكناية ذو مرام أكثره سعة للتواصل.

مدينتي بوصلةٌ في غابرات الأزمنة
أضعتها ...
نقّبت عنها سنة تلو سنه
بساعد مستهتر
ونبض نفس مؤمنه
قال لي الوتر:
للعشق دستورٌ فيا شاعرتي لا تحزني
لا تحزني وحاولي أن تنقذي جسدك المنبوذ
أن تنتشلي شراعك الغريق
أن تبتهلين
وبعد ظهور المناجاة لمدنية الشاعرة أصبح واضحاً أن صيغة المؤنث بقيت أصيلة في خطابها المعلن، الذي أتخذ من المجاز الثابت في معايير قصيدتها، لأن تجعل منه نظاماً ثابتَ الاشتقاق من رؤية واقعيته، يدلنا د. جعفر دك الباب إلى القواعد الاشتقاقية: " أن الأصل في الاشتقاق في النظام اللغوي للعربية تحولت إلى صيغة مصرفة تصريفاً تاماً، 5" والأصل هنا اثبات تدوير الوتر لمعالجة شكواها، من مساره الذي أتخذ من الحكمة جمالية تعبر عن سمو التصريف، على اعتبار أن الشاعرة تتبنى مرحلتين مختلفتين بين الماضي السحيق والمعاصرة، والرابط الأساسي بينهما هو الشعر، وما تبقى من الصوّر الاجتماعية التي أجازت تحوير المعالم العامة لبعض العادات والتقاليد العربية الصارمة، ونرى أن تلك المرحلة بقيت ثابتة بثبوت الصحراء، من العصر الجاهلي حتى مسار التطورات العلمية التي ظهرت في الزمن العثماني المنصرم، حيث أصبح التوليد المشبع بالعلنية متلازماً في النطق الصائت في التبيان الشعري عند الشاعرة ذات الشأن الذي يضعها بمصاف الشاعرات اللاتي يكون شعرهن صائتاً، يجعل من الشاعرة لديها مناعة ضد العوامل السلبية التي تحط من حرية الشاعرة التي تعلن عن العواطف اللطيفة المعزية منها والإباحية، ومن خلال المنظور الثقافي التحرري للشاعرات في العصر الإسلامي بعد أن كانت الشاعرة حريصة على الظهور العلني بالكشف عن حالتها الشعرية المعنية في المهوى الأدبي الغرامي بالصورة الصائة المتحدية باتجاه إثبات مكانتها على مستوى كافة العصور المختلفة بسياستها وقوانينها، حتى بقيت الشاعرة العربية تصاحب المسار التطوري ليومنا هذا، مع الاختلاف العائلي في حرية الثقافة النسوية المعنون بالتكاثر العددي، وخاصة تبنيها الميول الشعري وبقية الجناس في القصص والروايات الاجتماعية منها والجنسانية.

لا تحزني شاعرتي
قد كان لي فيما مضى مثلُك أهلٌ وصحاب
وكان لي مدينةٌ عشقتها عشق العذاب
غزلت من محاجري دوماً لأهلها الثياب
وضعت للرجال منّي أنجماً على الصّدور
أتحفتهم أوسمة على الرقاب
وكنت للنساء يا صديقتي
خبر رفيق
نزعت أقذاء الطريق
منها وأفنيت البعوض والذباب
إذ عرفوا قضيّتي
تحلقوا حولي وأشهروا الحراب

5- دك الباب، جعفر: كتاب تصريف الأفعال في العربية، مطبعة الأهالي للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 1991، ص15.
وطاردوني مرغماً كما تطارد الذّئاب
لأنّ يا شاعرتي الحزينة
مدينتي كانت سراب
ولم تكن مدينه
* * *
إذا كان هم الشاعرة الإيقاع التصويري والموسيقي لتوازن اللفظ بالمعنى فالقصيدة ممعنة بهذا، ولكن الصورة الشعرية لم يكتمل بناؤها الفني بهذا وحسب، لأن الشاعرة في غير قصيدة لم تواخ في تناسق النظر المحكم في سياق الحساب المعنوي بين زمنين مع ما في داخلها وفق المنحى المطلوب بلوغه في قولها: " للعشق دستورٌ فيا شاعرتي لا تحزني / لا تحزني وحاولي أن تنقذي جسدك المنبوذ / أن تنتشلي شراعك الغريق / أن تبتهلين" ومع التماس في هذه القيود المعنونة بنصيحة الوتر لها، فقد أجازت التصريف إلى أدق ملامح كينونته، باعتبارها واحدة من الشاعرات ذوات المرام المبشر بالنجاح، وأكثرهن طرفاً متهيئاً لأن تكون ممثلة لبلادها "موريتانيا"، وعلى ضوء ما تقدم وفي حساب هذا التَمَيّز الملاحظ شأنه في الكلم الشعرية المتماثل سياقها نجد قوافي القصيدة عندها تصوغ الصورة الحسنة المتمكنة من وزنها الشعري، إذن فعملية الخلق الفني عندها ميسرة وأكثر دقة كما فعل بشر بن المعتمد في قوانينه الخلقية في معيون حالته الأدبية، لأنها واضحة في تخيل الفكرة لإحكام المعاني المتصلة بالحدث الذي تناولته الشاعرة.
لكنها ومن تحليل دقيق آخر نجد أن شعرها خلا من الرمز، أو الاستعارة، أو إحاطة ترتيب الزميكان بين الفكرة والمعنى، ولكن لكل شاعرة لها خيالها الخاص مقرون بعلومها الأدبية المصار إلى وزنها الثقافي الذي يحكم منشؤه إعادة اكتشاف ميول الدافع العاطفي من الداخل والخارج عبر تداعيات تصون الاستشعار بين نظام التصريف، برابط إحكام التعبير بصورة تلقائية ذاتية حيث يستجيب كنهه للحالة الشعرية بوازع التنظيم الحسي الذي يوازن بطبيعته البواعث الخاصة للكناية المحصنة بالتلاحم مع قدرة الشاعرة على استحضار بلاغة المجاز ، وفي هذا النص تستمر الشاعرة تخضع حوارها الذاتي إلى توجيهات الوتر ذاته حيث يقول لها: " لا تحزني شاعرتي / قد كان لي فيما مضى مثلُك أهلٌ وصحاب / وكان لي مدينةٌ عشقتها عشق العذاب / غزلت من محاجري دوماً لأهلها الثياب" وهنا يأخذنا الوتر إلى توضيح العرفان للذات البشرية، بينما نتصور الشاعرة تحار في احساسها بالتأثير الواقعي للزمكان، بدواعي المفهوم الشعري، الذي بان عرفناه من منظور مقامه وتأثيره على الشاعرة في وضوح جعلت من الوتر موجها فكرياً لحالة الشاعرة.

وهكذا بقيت يا شاعرتي
معلقاً بالأفق
وهكذا بقيت يا شاعرتي
منتظراً للغسق
هكذا بقيت يا شاعرتي
أجونب كلّ أفقٍ محترقاً بالعشق بالتّمزّق
لكي أرى مدينتي، سماءها الجميله
لكي أرى أكواخها مريضةً هزيلة
لكي أرى مباسماً كأنجم الخميلة
لكي أرى معاقلاً تمتهن الرّذيلة
* * *
بقيت يا شاعرتي لكي أرى مدينةً
لفّعها الضّباب
وانتزع الجفافُ من أكفّها
كلّ حلابْ
واغتصب الأرض بيمناه
سهولاً وهضاب
أحالها إلى يباب
تصوّري شعرتي الحزينة
مدينتي كانت سراب
ولم تكن مدينه
تصوّري شاعرتي
مدينتي أمست خبر وأنت يا شاعرتي مثلي
فعانقي الوتر
* * *
قدركِ العشق فغنّي لأهازيج المساء
غنّي لأرضك الّتي ما عرفت غناء
غنّي لشاعر مضى متشحاً بالكبرياء
* * *
يتواصل الوتر يحدث الشاعرة ناصحاً ومحققاً لها رأيها عبر نظرة صوتية تقوم على استخدام فصاحة اللغة ونحوها، وانطلاقاً من هذا التوازن الشعري جعلت الشاعرة وترها يتواصل معها بصور صوتية مندمجة بمتخيلها النوعي أن يحاكي الأصوات التي تمهد إلى وازع الصيغة اللغوية المحكمة في اثباتها اللساني أن تقترب من اشتقاق الصيغة النحوية لحاجة الشاعرة إلى الفقه اللغوي في الصورة الشعرية الصوتية، بالمدلول الثقافي في حوزتها العلمية والمعرفية، وبالاستناد إلى الكمال التصويري الذي وظفته الشاعرة في صورتها الجمالية الدالة عن جديدها الذي طرحت فيه الولادة المختلفة في البنية الحيوية المندمجة بملقحة الطوع الاجتماعي مع الوارد الفكري في بيان اللغة، من واقع تحكيم معانيها للقارئ، وقد حملت في الوقت ذاته تمييز النص الشعري بواسطة المامها الإبداعي في نص يعالج السبق في القصيدة الممولة بالعمودي، وإن كتبته ربما في ظرف مختلف ولكن بتمييز ناجح كما هو وارد في بعض قصائدها، وهذا دليل على ولادة البنية التوليدية من معيون الجوانب البلاغية التي تُمدن النص في معالجتها اللغوية في الحلم النحوي الذي ينساب من ثقافتها الخاصة، وهذا دليل تتبناه الشاعرة بنظرة جدية جعلت له أصلاً قائماً بحد ذاته ضمن خصائص مركبة بين دلالة الألفاظ ومبعث المعاني المرتبطة بفصيحها.

مدينتي يا غُصّة من الرمال والحجر
مدينتي أيّتها الأكواخ أعجاز الشّجر
يا عطش التّراب حين يندر المطر
يا عالماً من الرؤى وموكباً من الصّور
يا بسمة الرّضيع غطّى وجهه القمر
يا رنّة تسبح في الأجواء في تهويمة السّحر
ضائعةٌ ووتري مثلي
ونحن العاشقان
ضائعةٌ ...منفيّةٌ...
لكنّ لي روحين .. لي قلبين
يا مدينتي
لي ريشة ولي لسان

* * *

لولاك يا مدينتي
يا غُربتي
ما كنت طيفاً في النّدى
ولا رسمت أحرفاً بريشتي على المدى
لولاك يا مدينتي ..
لولا الشّفاهُ فيك قد شقّقها الصّدى
لو لا العيون منكِ غارت
نكأت جوع السّنين
لولا صباياك على كل رصيف
تلوك أعقاب السّجائر وتمضغ الأفيون
تحلم أن تفجّر الماء وتصنع الرّغيف
وينضب الحلم فتذوي مثل أوراق الخريف
لو لاك يا مدينتي وقصّتي طويلةٌ طويله
ما كان لي روحان
ولم أجد بحوزتي قلباً ولا لسان

* * *

لو لاك يا مدينتي
لكان عشقي للوتر
لو لاك يا مدينتي لكُنتُ أخفيت الخبر
قهرك السّمسار أخفى الخبر ...
وافتضّك التّاجر أخفى الخبر..
عشقك الشّاعر قبل أن يرى
ثم أذاع الخبر

* * *

فأنت يا مدينتي
أحجيةٌ من القدر
وقدري أنّي أظلّ أقتفي منك الأثر
أبحث فيك عن وتر
في ليلك الشّجي تنثال أحاديث السّمر
في ليلك المسكون بالآهات والضّجر
ألامس الوتر
***
تستمر صوَّر المدينة تستحوذ على تمهيد المبادئ العامة في الصورة الشعرية الصائة في أغلب قصائد بنت البراء، حيث نجدها محكمة في قواعد تجلياتها الشعرية البيانية، في تلاقح الخصوبة في بنيتها، وذلك في تحكيم بيان خصائص التورية في المحكم البياني، بشكل علمي معتمد على البليغ النحوي الذي أسسه عالم اللغة سبيويه، تلك المدرسة التي عكست خصائص البنية في اللغة العربية وخاصة مصدر الاهتمام بالنحو العربي في منهجه الوصفي، وبالاستناد إلى المكانة الشعرية في قصيدة التفعيل الصوتية عند الشاعرة بنت البراء تعرض اشتقاق الصورة الشعرية من تفاعلات الذات مع استحضار الاستجابة إلى المرسل الناطق به الخيال الموحي، وهنا يدلنا د. جعفر دك الباب في هذا قوله: " أن الأصل في الاشتقاق في النظام اللغوي للعربية أن تكون الصيغة العامة تتحول إلى صيغة مصرفة تصريفاً تاما. 6" التي تحاكي طريقتها عبر خيار تيمم الوتر مما جعلته هو الدليل المناجي لحالتها المتخيلة التي تتوازن فيها التوليدية الشعرية بالمنظوم الذي يحرر الأوزان ونمطيتها المركبة إلى عناوين الدلالة في قوة المعاني وسياقها باتجاه تلازم نطق التلقي، حيث تقول:" فأنت يا مدينتي / أحجيةٌ من القدر / وقدري أني أظلّ أقتفي منك الأثر / أبحث فيك عن وتر / في ليلك الشّجي تنثال أحاديث السّمر / في ليلك المسكون بالآهات والضجر / ألامس الوتر." نرى أن تطور الصيغة في القصيدة من بدايتها حتى نهايتها تخاطب الذات الشاعرة، لتجعل من اللازمة تحكم الناظم أن يعتمد الحالة النفسية باجدام الخاطر في خيالها وذهنها عبر صيغة الواحي بين اللغة والتفكير، ووظيفة الابلاغ أنْ يؤدي إلى أداء الاتصال المتخَيَّل في تباري الكلم المتماثلة في مضمونها، حتى تستوفي الصورة الشعرية أنْ تؤدي نظاما كاملاً للتعبير عن الحالة الحلمية التي ترمها الشاعرة.
وفي القصيدة الآتية نتناول نص يحاكي التحدي بين رأي ومتعدي، يظهر فيها ما يشبه تاريخ الحروب ما قبل وخلال بداية الدعوة الإسلامية، وفي ذلك العصر ينطق الشاعر / الشاعرة بالمقابلة في مشهدين صوتيتين مختلفتين في الرأي، ومتصلتين بالثبوت للمواجهة وتحقيق العزم للتصدي في المعالجة التي تُحَدِثنا عنها الشاعرة بنت البراء، ومن أجل ما ورد نأتي على أسلوبية اشتقاق الحاصلة الفنية التي آثرتها الشاعرة في الصيغة اللغوية صيغة المواجهة الشعرية بواسطة صيغة التقطيع الشعري الحماسي بين واجهتين تعبران عن بسالة وشجاعة طرفها، نبين ما يلي في مشارب هذا النص الوافي لقدرة الشاعرة في تحقيق هذه الأسلوبية التي حققت استعارة الرمز بين الصوت والمدلول:

رسالة من شهيد

رصاصك سدد فالصدور مواقد
وبالأرض من همي جوى متصاعد
رصاصك سدد يا حقود فلا أنا
من القتل مزور ولا أنا شارد
أنا من دمي تخضر أرضي وتنتشي
وينبت جيل يألف الهم واعد
وتنبت من كل الشظيات أذرع
وتنبت هامات وتنمو سواعد
تراهن أن تبقى لها الأرض موطناً
وفي كل فج كل صوب تجاهد
أنا الأرض عشقي حيث كنت يظل بي
إليها حنين عالق الحب آبد
ولست أبالي أن يفجر صاعق
6- د. جعفر دك الباب: نفس المصدر، ص51.
ولست أبالي أن يهدم راعد
***
ونحن نقرأ صيغة المحاكاة في هذه القصيدة المؤثرة في دلالتها التي تخاطب الصيغة اللسانية بالمنحى الذي تراه الشاعرة واعداً في تحقيق اللزوم الفني الصوتي لنصها، في تطور ملحوظ تظهر فيه صيغتي التحدي والثبوت البدوي على الأرض الصحراوية، وهنا يبرز موقف الشاعرة التي يصعد صوتها من شجاعة الذات المقاتلة، بواسطة واعز النتيجة التي تميز خطابها الشعري عبر ظهور جنسه العربي الثابت على أرضه المتحد كالجبل، حيث ينبت جيل يألف الهموم والشقاء لكنه لم يهرب إلى حيث يريد الحقود في قولها: " رصاصك سدد فالصدور مواقد / وبالأرض من همي جوى متصاعد / رصاصك سدد يا حقود فلا أنا / من القتل مزور ولا أنا شارد / أنا من دمي تخضر أرضي وتنتشي / وينبت جيل يألف الهم واعد" تدلنا بنت البراء إلى التحدي في هذه الصور الصوتية أو لنقل الغنائية الملهمة بنوازعها الفدائية، لأنها تريد أن تثبت الوجود في مقامه، أنْ تستعمل فيه قدرتها على الموازنة اللفظية لترتيب حكمة التحدي على أكمل فصاحة تتطلب التلقي بأثر واضح، لأن الأصل في اختيار حركية التجديد الوظيفي للقصيدة الحماسية يرتبط في البداية التي أشرت إليها بالتمثيل الخطابي لهذه الأسلوبية أن تحقق حل مشكلة الابتداء أن يقيم الوزن الفني بين صورة شعرية وأخرى، نسميه بالملقحة الوزنية مهما كان طول أو قصر القصيدة على اختلاف غاياتها وميولها أن تحمل الكتابة في دائرة زمنها مهما كان موقعها العاطفي، ونحن نشير إلى أن تطور الجناس الشعري الموريتاني قوته في سياقه المقبول بتأثيره على القارئ العربي، حيث نجد الصورة الصوتية تحكم اللغة العربية على أسس ثابتة ومؤثرة في الحركة النقدية العربية.
تمت

هامش:

1- أحميد، أبو بكر: مقتبس من رأي إضاءات على الشعرالموريتاني، يتناول فيه الشاعرة مباركة بنت البراء.
2- أحميد، أبو بكر: نفس المصدر.
3- ميتشل، أدريان: مجلة الآاداب الأجنبية، العدد 79، ترجمة صخر الحاج حسين، في مقابلة مع الشاعر الإنكليزي أدريان ميتشل في دار أتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999، ص13.
4- يوسف، سامي اليوسف: مختارات من مواقف النفري، دار منارات للنشر، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 1981، ص16.
5- د. دك الباب، جعفر: كتاب تصريف الأفعال في العربية، مطبعة الأهالي للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 1991، ص15.
6- د. دك الباب، جعفر: نفس المصدر، ص51.