البنيوية التكوينية في النقد الموريتاني الحديث

يمكن للباحث المتأمل أن يلاحظ أن معظم المقاربات النقدية الموريتانية التي تنطلق من النص الأدبي أو تطمح إلى ذلك وجدت صعوبة حقيقية في اكتشاف النص الأدبي ودراسة قوانينه بمعزل عن السياق الخارجي، ومن ثم فقد وجد معظمها نفسه مدفوعا عن قصد أو غير قصد إلى الاستفادة مما يقدمه المنهج البنيوي التكويني من «وسائل» تسعى إلى ردم الهوة بين داخل النص وخارجه أو على الأقل تطمح إلى ربط الصلة بين هذين الوجهين المشكلين للظاهرة الإبداعية الأدبية بما هي نشاط لغوي خاص تفترض منتجا ومتلقيا ومحيطا اجتماعيا وواقعا اقتصاديا وسياسيا وخلفية تاريخية. 
وليس من طبيعة هذا البحث ولا من دوافعه وأهدافه أن ينطلق من البنيوية التكوينية كمنهج نقدي معروف في الغرب بأسسه وأدواته وإجراءاته ليبحث عن «إكليشيهات» موريتانية تصنف في خانته، كما ليس الهدف أيضا الانطلاق من منهج نقدي موريتاني بغرض البحث عن سبيل لوضعه في خانة عالمية تمكن من الاعتراف به وتسويقه. 
إن الغرض من هذه الدراسة هو محاولة لحظ ودراسة طبيعة هذا المنهج النقدي في موريتانيا وتصنيفه على نحو يتطلع إلى قدر من الموضوعية، ودرجة مقبولة من الدقة في رصد وتحليل المنهج. وحيث إن النقد العربي الموريتاني – كما النقد في الإطار العربي الأعم – استثمر على نحو واسع ويكاد يكون مقتصرا على ذلك « تقنيات» المناهج النقدية الغربية وطرائقها في التحليل والتصنيف والتركيب، والحكم أحيانا، فإنه يصبح مشروعا وطبيعيا دراسة المنهج النقدي الموريتاني انطلاقا من خصوصيته وفي تعالقاته مع مرجعياته الفكرية النظرية والإجرائية في السياق العربي والغربي لنعرف كيف استطاع الناقد الموريتاني أن يبني منهجه الخاص به، وحدود التزامه بالمنهج النقدي «المصدر» وهو تساؤل سيؤدي بنا إلى إعادة طرحه بطريقة أخرى لأسباب تتعلق بالثقافة العربية المعاصرة إجمالا – والنقد الأدبي جزء منها وهي كيف استقبل النقاد الموريتانيون البنيوية التكوينية ؟ 
لوسيان جولدمان ورؤيته العالم
يلعب العمل الأدبي في نظر لوسيان جولدمان وأضرابه من البنيويين التكوينيين دورا حيويا في تكوين الواقع وتشكيله عوض عكسه بشكل سكوني، وانطلاقا من التمييز بين «المعرفة المجردة» و«المعرفة المحسوسة» يمكن إدراك المفهوم الجولدماني عن البنية الدالة أي وحدة العمل ومعناه، وبالتالي طابعه الجمالي الخاص، وليس ذلك إلا لإيجاد علاقة مشتركة ليست بين مضمون الوعي الجمعي ومضمون العمل الأدبي، ولكن بين البنى الذهنية التي تشكل الوعي الجمعي والبني الشكلية والجمالية التي تشكل العمل الأدبي. 
وهكذا اهتم جولدمان بدراسة «بنية» النص الأدبي دراسة تكشف الدرجة التي يجسد بها النص بنية الفكر أو رؤية العالم عند طبقة أو مجموعة اجتماعية ينتمي إليها الكاتب وعلى أساس أنه كلما اقترب النص اقترابا دقيقا من التعبير الكامل المتجانس عن رؤية العالم عند طبقة اجتماعية كان أعظم تلاحما في صفاته الفنية. 
والرؤية للعالم أشد حضورا في الأعمال الأدبية والفلسفية العظيمة أي تلك التي تتميز بقيمة جمالية أو فكرية أو بهما معا « إن البنية الداخلية للأعمال الفلسفية أو الأدبية أو الفنية العظمى صادرة عن كون هاته الأعمال تعبر في مستوى يتمتع بانسجام كبير عن مواقف كلية يتخذها الإنسان أمام المشاكل الأساسية التي تطرحها العلاقات فيما بين البشر، والعلاقة بين هؤلاء وبين الطبيعة». 
والدراسة التي قام بها «جولدمان» لأفكار «باسكال» ومسرحيات «راسين» في كتابه « الإله المختفي»( Le dieu caché) تؤكد الفكرة السابقة فقيمة أعمالهما الفكرية والجمالية ليست في حاجة إلى تأكيد ولا ينفي جولدمان « الرؤية للعالم « عن الأعمال الأدبية والفلسفية غير العظيمة، بل إنه يرى أن كل أديب أو فيلسوف إنما يعبر في كتاباته عن رؤية معينة للعالم بغض النظر عن قيمتها. 
ويوضح جولدمان رؤيته أكثر « إن الرؤية للعالم هي بالتحديد هذا المجموع من الطموحات، من المشاعر والأفكار التي تضم أعضاء مجموعة أخرى، إنها بلا شك ليست خطاطة تعميمية للمؤرخ ولكنها تعميمية لتيار حقيقي لدى أعضاء مجموعة يحققون جميعا هذا الوعي الطبقي بطريقة واعية ومنسجمة إلى حد ما». 
ولا شك أن جولدمان هنا قد حدد ما يريده بدقة في منهجه ولكن التساؤل سيبقى مشروعا حول ما إذا كانت البنيوية التكوينية جسدت مسعى جادا للخروج من «شرنقة» التحليل اللغوي «المغلق»، أم أنها كانت محاولة خلاقة « لترقيع الماركسية. 
وقد شرعت الساحة النقدية العربية في التعرف على البنيوية الغربية خاصة في شقها التكويني وغيرها من الاتجاهات النصية منذ أواخر الستينات وإن كان البعض يعود بذلك إلى أكثر من عقد من الزمن قبل ذلك. 
ففي سنة 1974 نشر كمال أبوديب أطروحته «جدلية الإيقاع في الشعر العربي» ثم كتابه «جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر 1979 مواصلا أعماله في هذا السياق خلال العقود التالية. 
البنيوية التكوينية في الوطن العربي 
وقد تنوعت وتشعبت التجارب البنيوية التكوينية في المنطقة العربية، وربما كانت أكثر تماسكا في وفائها لمنطلقاتها الفلسفية والمنهجية من التيارات البنيوية « اللغوية أو الشكلية « كما يسميها البعض في البلاد العربية. 
وقد عملت دراسة إدريس ابلمليح «الرؤية البيانية عند الجاحظ» 1985 على تطبيق مفهوم الرؤية للعالم كما حدده جولدمان على التراث النقدي. 
ويتحدث «إدريس ابلمليح» نفسه عن طبيعة منهجه البنيوي التكويني وتطبيقه على أعمال الجاحظ خاصة مفهوم رؤية العالم باعتبارها بنية دالة «هذا الاستخدام الذي ساعدني على تمثل فلسفة بيانية كانت قاعدة لتصور العالم من طرف الجاحظ تصورا يمكن أن نفهم في ضوئه مجمل ما ألف من كتب ورسائل، أو على الأقل أهم ما تضمنته البنية في ضوء فلسفة المعتزلة، أي بدمجها في بنية أشمل وأوسع هي الاتجاه العقائدي العام الذي آمن به الجاحظ وشكل حجر الزواية في فكرة وإبداعه. 
وقد كان كتاب «في معرفة النص» (1983) محطة رئيسة في تطور المنهج النقدي عند يمنى العيد حيث حاولت أن تكتشف البنيوية التكوينية خارجة من عباءتها الماركسية الصرفة التي ظهرت من خلال معظم أعمالها السابقة خاصة « الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان». 
أما «محمد بنيس» فتعد دراسته «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب -مقاربة بنيوية تكوينية» وعمله الكبير الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها من أبرز الأعمال التي تطمح إلى «استزراع» هذا المنهج في الممارسة النقدية العربية إذ أنه يقدم جوابا مركزيا «على منهج القراءة، حيث أن كل قراءة علمية بنيوية تكوينية للنص الأدبي يجب أن تتم من داخل المجتمع، ما دام الفكر والإبداع جزءا من الحياة الاجتماعية، وما دامت للنص الأدبي وظيفة محددة تاريخيا، إذ هو جواب فرد ينتمي بالضرورة لفئة اجتماعية محددة تاريخيا، يهدف إلى تغيير وضعيته في اتجاه يلبي طموحاته التي تلتقي مع طموحات الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. 
وإذا كنا قد قمنا خلال التمهيد السابق بمحاولة خجولة لإضاءة المسار البنيوي التكويني غربيا واستقباله عربيا فإن التساؤل يبدو ملحا حول طبيعة تلقي البنيوية التكوينية في النقد الموريتاني المعاصر. 
النقد البنيوي التكويني في موريتانيا: 
ظهر أول اهتمام بالبنيوية التكوينية في موريتانيا منذ أوائل الثمانينات من خلال مجموعة من المقالات النقدية الصحفية التي تأثرت بها على نحو أو اخر، كما أن مجمل المدونة النقدية التي ظهرت بعد ذلك منذ أو اخر الثمانينات لا يمكن فصلها أو عزلها عزلا كليا عن هذا الاتجاه وامتداداته الواسعة في الساحة النقدية في المنطقة العربية عموما والمغاربية خصوصا غير أن ثمة ثلاثة نقاد موريتانيين يمكن تصنيفهم في هذا الاتجاه ولكل منهم خصوصيته في الاستفادة من هذا المنهج، وحدود هذه الاستفادة وهم: 
1-محمدو الناجي ولد محمد أحمد : 
مارس «محمدو الناجي» النقد الأدبي في جانبه التطبيقي خاصة في مقالاته المنشورة في جريدة «الشعب» حول قصيدة السفين 1984 والتي اتضح فيها تأثره بالنقد الاجتماعي (الواقعي الاشتراكي). 
ثم من خلال دراسته التي أعدها سنة 1987 وعنوانها: «معارضات ياليل الصب -السمات المشتركة والخصائص المميزة « وذلك للحصول على دبلوم الدراسات المعمقة من الجامعة التونسية خلال فترة إقامته في تونس للعمل في الجامعة العربية، وتحول فيها الناقد نحو المنهج الأسلوبي مؤقتا، ثم عدل عنه في دراسته الخصبة «مقومات الشعرية في ديوان محمود درويش». 
والباحث وهو يتنقل بين الاتجاهات النقدية المختلفة لا يفعل ذلك عن رغبة فضولية في التنقل، أو عن جهل بحقيقة المناهج النقدية ودورها في بناء النص، وإنما تحركه الرغبة في الوصول إلى منهج يحط الباحث الرحال عنده وهو مشبع بالاطمئنان إلى أنه قد وصل إلى طريق أو آلية تمكنه من مقاربة الظاهرة الأدبية في أبعادها المختلفة، والتباينات المتنوعة، بعيدا عن المنهج الذي يكشف عن زاوية واحدة من الصورة ويترك زواياها الأخرى عن قصد أو عن غير قصد. 
ويبدو لي أن الناقد محمدو الناجي كان موضوعيا في عملية تنقله بين المناهج النقدية، فقد بدأ بمنهج اجتماعي (خارجي) ثم عدل عنه إلى منهج أسلوبي ( داخلي) ثم عاد إلى مستوى من مستويات التركيب بين المنهجين من خلال المنهج البنيوي التكويني. وتعد هذه المرحلة الرئيسية في عطاء هذا الناقد. 
ويتحفظ الناقد في بداية تقديمه لعمله «واستراتيجيته العامة من التصريح بمنهجه: «أما نحن، وبشيء من الصدق مع القارئ فقد انطلقنا من أن المنهج الذي نتبعه هو منهج نحدده سلفا، وأن نعتمد مبدأ «الفائدة» في مباشرة النص، ونترك للحظة النقدية حرية التحكم في تحديد الاتجاه أثناء مساءلتنا للنص، ولعل ذلك كان أقرب إلى الموضوعية . 
ولكن الناقد يعود ليتخفف مما قد يخيل للقارئ أنه توسع في المناهج أو سعى لإلغاء حدودها، «رأينا أن تحليلنا للنصوص قد استقر عليه ما يشبه توفيقية جولدمان، أو ما يعرف بالبنيوية التكوينية التي تجمع البعد الخارجي للنص إلى البعد الداخلي له». 
وكأنما يخشى الناقد من الوقوع الصارم في دائرة التصنيف الدقيق فقد حرص على إبداء بعض التحفظ مبررا سببه: «ومع مقاربتنا هذه للمنهج المستخدم في الدراسة، فإننا لم نتحرج من استخدام أية روافد أخرى نفسية أو تاريخية أو أيديولوجية، قد تساعدنا على اكتشاف النص أكثر فأكثر وتسد من أزرنا في الوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة». 
وقد اختار الناقد دراسة شعر محمود درويش، وتكشف أسباب اختياره عن مزيد من معالم منهجه النقدي «الاهتمام بالقضية الفلسطينية التي ربط درويش نفسه بها، واندمج فيها وجدانه فأصبح خيطا من نسيجها وباتت عنصرا قارا في كيانه» ويبقى التساؤل الملح عند الناقد محمدو الناجي كيف استطاع النسق الفني عند درويش أن يكشف هذه الحقيقة وأن يبرز تلك الحالة. 
ويعود لينتصر لذلك التدرج، والحكم الذي أصدره، يقول متحدثا عن حوار شعري في أحد نصوص الشاعر، «إن هذا الحوار الفاجع والممتع في الوقت نفسه لا يمكن أن ينقل عبر نص قصير يتسم بالنصاعة وأحادية الرؤية، وهنا تكمن القيمة الشعرية لهذا النوع من البناء الطويل ذي الطابع الدرامي الذي تتصارع فيه إرادات ومشاعر مختلفة وتطلعات متناقضة 
إن الناقد يركز على ترصد أرق الشاعر في البحث عن النص القادر على النفاذ إلى العالم بشقيه الداخلي والخارجي وإعادة تشكيله من جديد على نحو يكشف حقيقته الأصلية التي لا يستطيع إعادة تركيبها وفك شفرتها إلا الناقدة أو القارئ الحريص. 
ويلاحظ الناقد ما أسماه تحولات القصيدة في مسيرة درويش الشعرية رابطا بينها وبين الخارج السياسي: «يتطور درويش وباستمرار من مرحلة إلى أخرى من المباشرة إلى الظهور إلى الخفاء ودرويش بحيويته ومعايشته للواقع المتغير لا يستطيع إلا أن يتغير ويتطور فيما بين أسلوب وآخر وقد اشتعلت الثورة الفلسطينية ووقعت هزيمة 1967 وتفجر كل شيء في الداخل والخارج في الحلم والقصيدة، وشرع محمود درويش في أسفاره الكبرى بين الأمكنة والكلمات». 
ويبلغ الناقد ذروة اكتشافه لنسق الشاعر الإبداعي في تشابك الذاتي مع الاجتماعي، الوطني والقومي، والداخلي والخارجي حين لاحظ أن محمود درويش أظهر «بطرافة صوره في «رقتها»، وفي «عنفها» أن الوجدان ليس مقصورا على الناحية الذاتية البحتة بل قد يمس القضايا الاجتماعية الكبرى، فالشعر الحديث وفي الذروة منه شعر درويش ميدان الأحاسيس الوجدانية فردية كانت أم اجتماعية» . 
وإذا كان محمدو الناجي ولد أحمد قد حاول أن يوظف إلى حد معين المنهج البنيوي التكويني، فإنه قد فعل ذلك فيما يبدو لنا من خلال مجموعة من الأدبيات الكبرى والمقولات الأساسية وليس من خلال استثمار «تقنياته» الفنية الجوهرية, وقد توسع في بعض فصول دراسته حتى اقترب كثيرا من أطروحات الماركسية خاصة في فصل الالتزام في شعر درويش. 
2- بات بنت البراء: 
تبرز المساهمة النقدية لبات بنت البراء – وهي شاعرة أيضا – من خلال عملها الـذي نشرتـه سنـة 1998 وعنوانـه « الشعـر الموريتـاني الحديث 1970- 1995. 
ولعل عمل بات بنت البراء كان أجرأ محاولة لناقد موريتاني للاستفادة من هذا المنهج في دراسة الشعر ولم يصل بها الأمر أن تدخل في صرامة تفاصيل هذا المنهج أو ترتبط بجزئياته الإجرائية. 
ويحضر في تحليلاتها على نحو ضمني مفاهيم من قبيل البنية الدالة، ورؤية العالم وغيرهما من «ميكانيزمات» هذا المنهج، كما عولت على معطيات صادرة من مسارات بنيوية أخرى وإن على نحو أضعف. 
والناقدة كما يظهر عادت إلى المنهج في أصوله الغربية بشكل محدود، وفي تطبيقاته العربية على نحو واسع، ومن ثم فإنها وبغض النظر عن قيمة عملها من الوجهة النقدية المعيارية فإنها قد أخذت بطريقة أو أخرى «عيوب» «ومزايا» محاولات «تعريب» هذا المنهج. 
وقد قسمت الناقدة الدراسة إلى ست بنيات سنركز هنا على البنية الدلالية منها لأهميتها في موضوع بحثنا: 
ويلاحظ أنها وضعت مصطلح «المضامين الشعرية» مرادفا مناظرا لها، وكأنها تريد أن تجعلها في منزلة واحدة. 
وهي تقدم تصورا عن تطور رؤية الشاعر الموريتاني للعالم ابتداء من عالمه المحلي في أحلامه، وانكساراته، ثم يتصاعد هذا الوعي ليتضخم في شكل قضايا قومية كبرى تنحفر بالطريقة نفسها التي انحفر بها عالمه المحلي الأصغر. 
وترى الناقدة أنه بمرور السنوات الأولى للاستقلال تبين أن الوعي التاريخي والإبداع الفني يقتضيان امتلاك منهج فكري، ونظرية عامة يمكنان من صياغة رؤية شاملة وقادرة على تحليل وصياغة اختيارات تلائم متطلبات المرحلة الجديدة. 
ويبرز هذا الوعي أكثر ما يبرز في قضية الوطن التي كانت من أبرز القضايا التي أرقت الشاعر الموريتاني «والوطن في هذه الأشعار «المدونة» مفهوم مجرد متبلور يتضمن الانتماء إلى الأرض والشعب، ويتقمص جميع علاقات الشاعر – بوصفه إنسانا وشاعرا – بحيثيات الماضي والحاضر والمستقبل فهو كنزه الغالي وتركة أجداده، هو أمله وحياته ومصيره». 
وتكشف الناقدة صورة الوطن / الواقع بعد أن عرضت للتصور الذهني لـه في ذهن شعرائها «ويظل الصراع قائما بين الانتماء والرفض: الانتماء إلى الوطن (مفهوم الوطنية) ورفض الصورة المأساوية (الظلم والاضطهاد والتخلف) إلى أن يتم التلازم التعبيري بينهما في البيت الشعري الواحد، بل وحتى في الجملة يتناوبان طرفي الإسناد. . هو الانتماء والوعي بحقيقة المأساة والرفض لكل صورها المعبر عنها بالجرح والأسر والتمزق والمعاناة : 
بلدي جريح 
فكيف أقبل أن أخون وأن أهون؟! 
وطني أسير 
كيف أطمع بالسعادة في حمى المستعبدين؟ 
وتركز الناقدة على تطور رؤية الشعراء فتقول «إذا كانت قصائد المرحلة الثانية شهدت انفتاح الشاعر على الهم القومي واهتمامه بالقضايا القطرية، وهو ما عرفته كذلك بعض القصائد في الثمانينات فإن المرحلة الثالثة وما اتسمت به من ضبابية الرؤية وما عرفته من ظروف استثنائية وجفاف حاد جعلت الشاعر يراجع الخريطة المحلية من جديد وينذر بخطورة المستقبل، فلم يعد المستقبل محط الآمال كما في قصائد المرحلتين الأولى والثانية وإنما أصبح مدعاة للقلق والتشاؤم انطلاقا من الواقع الذي ينبئ بذلك». 
وتتكشف معالم منهج بات بنت البراء أكثر عندما تعرض لملاحظاتها الختامية حول دراستها: « إذا حاولنا التوليف بين الدرجة التي شهدتها البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بسبب التمدن والجفاف ومدى ارتباطها بظهور هذه المدونة وقمنا بعملية إسقاط على الواقع أصبح بإمكاننا المواءمة بين التحولات الشعرية على مستوى البنية الداخلية وبين مراحل التطور الاجتماعية والسياسية وبالتالي الثقافي والنفسي، وهو ما مكننا من اكتشاف التفاعلات الثقافية والنفسية والاجتماعية التي أقامتها البنية الداخلية للمتن مع المحيط عامة. 
وهي هنا تبرز وعيا واضحا بأنماط الترابط بين التحولات الشعرية والبنيوية عموما ودلالاتها على اللحظات الحياتية. 
ويمكن للدارس أخيرا أن يخرج بالملاحظات التالية حول منهج الناقدة. 
1- ان الناقدة حاولت أن تستفيد مما يقدمه المنهج البنيوي التكويني من أطروحات وآليات تطبيقية سعيا إلى قراءة مدونة الشعر الموريتاني قراءة أقرب إلى التكامل منها إلى النظرة الأحادية من خلال ربط داخل النص بخارجه ربطا فنيا وليس ربطا غرضيا فضفاضا، وقد وفقت في ذلك بعض التوفيق. 
2- ان هذه الاستفادة لم تصل إلى حد تقبل المنهج في تفاصيله كما لم يمنعها من الاستفادة من التيارات البنيوية الأخرى. 
3-عانت الناقدة من الارتباك في فهم وتطبيق المنهج البنيوي التكويني، وهو الشيء نفسه الذي حدث لها عندما حاولت الانفتاح على مناهج أخرى واستثمارها في دراستها كالسيميائية والبنيوية، وعانت من التيه أحيانا والانزلاق أحيانا أخرى حول المناهج. . ولم تكن في عملها ذلك بدعا من كثير من التطبيقات العربية للمناهج النقدية الغربية عموما والمناهج النصية منها خصوصا. 
3 عبدالله ولد السيد 
انطلق الناقد عبد الله ولد السيد في عمله «الشعر الشنقيطي من القرن 12هـ إلى القرن: 13هـ المرجع والبنية « من منهج يسعى إلى التوفيق بين البنيوية كمنهج وصفي وبين المناهج التي تنفتح على خارج النص. 
وهو لم يصرح باختياره منهجا من المناهج النقدية المعروفة، إلا أن وصفه لمنهج دراسته، وطريقة عمله في تحليل المدونة واستخلاص النتائج يكشفان عن تبن ضمني وتناغم واضح مع البنيوية التكوينية. 
وكان هذا الناقد قد بدأ مشروعه بعمله «المعارضة في الشعر الموريتاني مدخل لدراسة الاحتذاء عند شعراء القرن الثالث عشر الهجري» وقد نشره سنة 1995 بنواكشوط. 
وقد حدد عبدالله ولد السيد عناصر منهجه في أطروحته 2001 بقوله: «أما ما يتعلق «بالمرجع والبنية» في عنوان هذه الأطروحة فنعني بهما المجال المعرفي النقدي الذي على أساسه ندرس الشعر الشنقيطي، بحيث تشمل الدراسة البعدين الرئيسيين المرتبطين بكل نص شعري: 
• بعده الذي يحيل فيه على شبكة من العلاقات الاجتماعية والثقافية من خلال رؤية الشاعر ومواقفه وإرادته في بلوغ ما ينبغي أن يكون على مستوى واقعه المعيش، وتعامله مع ما هو كائن. . 
• بعده الذي تشكل فيه علاقاته الذاتية نسيجا من البنى اللغوية والموسيقية يختارها الشاعر تحت تأثير الأعراف الفنية، وتبرز من خلالها قدرته وطبيعة انشغالاته الفنية». 
وهو يعود ليحترس من الارتباط بمنهج محدد على نحو صارم ملاحظا المزالق التي وقعت فيها المناهج اللسانية الصرفة، وكذلك المناهج الخارجية التقليدية، ولكنه يلمح على نحو يقرب من الصراحة بتبنيه لمنهج يدخل في الإطار العام للبنيوية التكوينية مع احتفاظ الناقد ببصماته الخاصة التي تفرضها طبيعة المدونة وخصوصية الزمان والمكان، يقول: «ولم يكن النظر إلى الشعر الشنقيطي من خلال البعدين المذكورين ليدفعنا إلى أخذ منهج جاهز، والبحث عن إجراءاته والاجتهاد في تصديق مقولاته من خلال النصوص؛ وإنما دفعتنا طبيعة النصوص، ومعايشتها إلى الاستفادة أحيانا من طرق وإجراءات متباينة مؤمنين بأن طبيعة الشعر باعتباره «مرجع اللغة الأول، لأنه منبع التسمية ومولد الوعي والتاريخ والحضارة» تفرض أن لا ينظر إليه بوصفه مجرد تركيب لكلمات اللغة وفق أعراف الشعر وقواعد البلاغة والعروض تركيبا تحدث معه «المزية» كما نرى في النقد العربي القديم، ولا باعتباره مجرد حدث لساني يتميز بقيامه على العدول بالخطاب عن طرق الإبلاغ العادي بصورة تنشأ منها أدبيته وحسب، وإنما كذلك بقيامه بالوقوف عند أبعاده انطلاقا من أنه إفراز لعقول تفكر ونفوس تشعر، ورؤوس تنشغل «بالأسئلة التي ينشغل بها الإنسان دائما» الزمن الموت، والحب، والعلاقة مع الآخر الفردي، والآخر الجماعة، ولقمة العيش، ونظم الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، واللغة وعلاقتها بالإنسان أو بعبارة «مالرو» الشرط الإنساني والمصير الإنساني معا وفي آن واحد». 
ويكشف تبني عبدالله ولد السيد في استشهاده الأخير لآراء كمال أبوديب في كتابه «الرؤى الكبيرة المقنعة نحو منهج لدراسة الشعر الجاهلي» عن دقة ما ذهبنا إليه، إذ أن هذا الناقد يعتبر من أبرز النقاد العرب الذين ألحوا على ضرورة انفتاح البنيوية على خارج النص، وتقاطعوا مع البنيوية التكوينية في كثير من أطروحاتها، إن لم نقل انتمى إليها. 
وهكذا يكون عبدالله ولد السيد قد اختار لنفسه منهجا نقديا وطوره عبر مجموعة من الدراسات والبحوث أبرزها كتاباه اللذان عرضنا لهما بالدراسة هنا، وهو منهج لا يمكن إخراجه في نظرنا عن البنيوية التكوينية ومنطلقاتها الجوهرية، وهو ما ظهر في الدراسة واستخلاصاتها، ولكنه لا يخضع لها خضوعا حرفيا، بل ينفتح على مناهج ومشاغل معرفية وفنية متعددة بل ومتناقضة أحيانا كما لاحظ الناقد نفسه، ولاحظها قبله محمدو الناجي ولد محمد أحمد تصريحا، وبات بنت البراء ضمنا. 
ولعل ذلك نفسه أحد أبرز الإشكالات التي واجهت البنيوية التكوينية نفسها خلال مسيرتها «التوفيقية» في السياقين الغربي والعربي. 
د. محمد الحسن ولد محمد المصطفى
drelhacen@gmail. com