قصة كتابة قصيدة "فرحة العيد" أيقونة شعر الاستقلال

كتبت سيرا على الأقدام على شاطئ البحر..

ألقيت لأول مرة يوم 28 نوفمبر 1967 في المركز الثقافي المصري

طبعتها حركة الشباب القوميين اليساريين وحظيت بتوزيع واسع

 

 

 

كتب المختار السالم:

"الشعب" هي أول وسيلة إعلام تقدم للقراء قصة ميلاد أشهر قصيدة موريتانية تمجد استقلال البلاد، القصيدة التي تتردد على لسان كل موريتاني من الصغير إلى الكبير؛ عابرة الأجيال والعقود دون أن يزيحها من القمة أي نصّ أو يرقى إلى مكانتها في قلوب الموريتانيين.. حيث تؤثث كلمات هذه القصيدة شفاه المواطنين عند كل احتفال بذكرى استثنائية في تاريخ الأمة؛ ذكرى الاستقلال.

"فرحة العيد".. مطلعٌ زاحم أغلب مطالع الشعر العربي في تدفقه الوابل على لسانِ الموريتانيين.. والقصيدة حظيت بقراءات نقدية وافرة، وصنفت ضمن الشعر الوطني الخالد، وغناها فنانون موريتانيون وعرب.

"الشعب" بمناسبة الذكرى الواحدة والستين لعيد الاستقلال الوطني تحيي ذكرى قصيدة "فرحة العيد"، أيقونة شعر الاستقلال، وذلك من خلال إلقاء الضوء على توقيت ومكان وظروف كتابة هذه القصيدة، حيث اختص الشاعر أحمدُّ ولد عبد القادر "الشعب" بسرد قصة كتابته لـ"فرحة العيد"، القصيدة، التي ستعايش الأجيال كأنشودة خالدة للفرح/ الكبرياء/ الشموخ/ السموّ/ الارتقاء الحضاري/ الوطن/ الأمة/ والتاريخ.

بداية من المعروف أن الشاعر أحمدُّ أطلق على هذه القصيدة عنوان "قصة شعب". لكن الشعب الموريتاني كان له رأي آخر في تغيير الأسماء، فسماها بـ"فرحة العيد"، الاسم الذي صارت معروفة به بين الموريتانيين.

قصة كتابة القصيدة.... كتبت سيرا على الأقدام.. وألقيت لأول مرة في المركز الثقافي المصري

 

يقول الشَّاعر أحمدُّ ولد عبد القادر "كان ذلك عام 1967، وكنت ضمن الشباب المنعشين للسهراتِ الأدبية التي ينظمها المركز الثقافي المصري بنواكشوط حديث الافتتاح وقتها، وقد تقرر أن يتم الاحتفال بذكرى الاستقلال 28 نوفمبر 1967، من خلال أمسية أدبية.

كانت الأجواء في تلك الفترة مشحونة ومتوترة، وكانت فترة نقاشات ساخنة، تركزت فيها المواجهة على اللغة العربية، واتخذت أشكالا كثيرة، منها السخرية اللاذعة من مدرس اللغة العربية، ووصفه بنعوت سيئة وبأنه متخلف، وكانت عبارة "صوفاج" من ذلك القاموس الموجه لتحطيم الروح المعنوية للمدافعين عن اللغة العربية.

أريد أن أنقل لكم الخلفية النفسية للشباب وقتها، فقد كنا نحلم بالتحررية، ويغمرنا الفرح بهذا العلم الأخضر الذي يضم الهلال والنجمة باللون الأصفر مقابل ماذا.. مقابل علم فرنسا الذي كان يرفرف في سماء بلادنا.

لكن الشباب الوطني برغم ارتفاع العلم الوطني، يدرك أنَّ المستعمرين ما زالوا موجودين في البلد، وأنهم موظفون ومستشارون في المكاتب، وداخل القواعد العسكرية، وما زالت "ميفرما" مثلا غير مُؤممة قائمة كمؤسسة أو دولة داخل الدولة.

كان الشباب الوطني يشعر أنّ واقع الوطن واقع مدمر للمشاعر، ولكنه بذات القدر دافع للحماس، وللعمل الوطني النضالي.

هذه هي الأجواء التي كتبت فيها قصيدة "قصة شعب".

وأذكر أنها كتبت قبل يومين من حلول ذكرى عيد الاستقلال 28 نوفمبر 1967، وقد كبتها عند البحر.. حيث كنت أذهب سيراً على الأقدام من مقر سكني قرب مدرسة السوق (مدينة 3)، إلى البحر وأتمشى على الشاطئ، وكنت خلال المشي أتوقف من حين لآخر لأدَوِّن البيت والبيتين من القصيدة تدريجيا إلى أن اكتملت.

كان أول من سمع القصيدة بعد كتابتها هو مدير المركز الثقافي المصري محمد عفيفي، وقد تأثر بها بشكل كبير حتى أنه طلب أن لا يسمعها أي شخص قبل أن تقرأ علنا على منبر المركز الثقافي المصري خلال الأمسية الاحتفالية بعيد الاستقلال وهو ما كان، فأجبته بالموافقة.

كانت الأجواء جد مأزومة ومتوترة، وقد أخذت القصيدة طريقها في ذاك الجوّ، فقامت حركة الناصريين أو على الأصح حركة الشباب القوميين العرب اليساريين بداية بطباعة القصيدة وتكثيرها على "استينسيل" وقاموا بتوزيعها على نطاق واسع.

أما عن سؤالكم عن تأثري بسماعها إنشادا من الآخرين في البيوت أو المدارس أو الشارع، فهي ظاهرة مريحة لكنها صارت مألوفة مع مرور الوقت.

ردود فعل..

فاجأت قصيدة" قصة شعب" الساحة الثقافية والأدبية وقتها، بل إن إيقاعها ضرب بعمق في "الساحة السياسية"، فكانت بصفة عامة فرحة بفتح شعري أنيق ساحر وعميق ومتفجر، وكانت على مستوى بعض السلطات "جرس إنذار" من ثورة شعرية في وسط يكادُ الشعر يكون من مقدساتهِ. لم تكن قصيدة عادية تشرع ذاتها باللغة القاموسية، وبالوقفات بربع الظاعنينِ وآثار الدارِ.. كانت "شعرا جديدا".. شلالاً في الصحراءِ، وبحرا آخر يولد في المدرسة الشعرية الموريتانية.. كل ذلك بلغتها الحنيفةِ بحمولة حضارية ضخمة من الإحالاتِ، وبموقف سياسي مضيء ناصع غير قابل للتنازل قيد أنملة أمام احتمالاتِ العتمةِ. اللغة البلورية لهذه القصيدة تمتاح من منبعين ثريين: الضمير الجمعي للأمة وصلابة الموقف الحضاري، والقدرة الفذَّة للغة العربية على بوتقة وموسقة الأفكار والصور البلاغية والمجازية في تيمة ملاحم شعرية تـتبستنُ بثمرتي التاريخ والجغرافيا.

 

القصيدة.. كانت أيضا إشارة انطلاق "الاستقلال الشعر الموريتاني" من قيود التقليد

"المتلبسون بتهمة القصيدة"... التفتيش كان بانتظار أول من درس القصيدة في المدارس

إذا كانت قصيدة "قصة شعب" أو "فرحة العيد"، قد احتفلت بعيد الاستقلال الوطني السيادي، وعلى طريقتها الشعرية، فإن القصيدة كانت بطبيعتها الفنية ولغتها الداخلية وبنائها الشعري والأخيلي وقيمها الفكرية، تدشيناً لاستقلال الشعر الموريتاني من "تراث القيود" الضخم.

وترى الكاتبة والأستاذة د. النجاح بنت محمذن فال أنَّ مؤتمر كيهيدي 1964، شكل منعطفاً في نواح كثيرة، وأنَّ شعراء تلك المرحلة دشنوا "منهجا جديدا بموجبه يستحضرون المقاومة في مواجهتها مع المستعمر الفرنسي، وكان الشاعر أحمدُّ ولد عبد القادر رائد هذه المرحلة من خلال قصيدته "فرحة العيد".

واعتبرت أن هذه القصيدة "بمثابة كسر لظاهرتين: ظاهرة المقدمة الطللية التي دأب الموريتانيون على التمسك بها ردحا من الزمن، وظاهرة الانزياح بشعر الاستقلال إلى سياقات أخرى ظرفية".

وقالت: "تأتي قصيدَة "فرحة العيد" مشحونة بمضامين العزة والكرامة والكفاح ضد المستعمر من خلال ما تفوح به من ألفاظ ذات الدلالة القصوى على ما قدمه هذا الشعب من دماء في سبيل حضارة ضاربة في عمق الزمن... (زاره عقبة المجاهد ...) فلا تترك للمتلقي من سبيل إلا أن يرحل إلى الذكرى! ذكرى ثنائية التقابل بين ماضي الدموع الذي يحيل إلى الحقبة الاستعمارية (حول ماض عشناه حزنا ودمعا)، ولا يفتأ الشاعر يستلهم من العبارات ذات الدلالة الموحية بالتشظي والغضب ضد المستعمر، وبين ماضي العزة والكرامة والجهاد (وانتفضنا منه انتفاض الكماة، عبق بالفخار والمكرمات).

تنتظم إيحاءات ماضي الدموع ضمن منظومة العبارات ذات الدلالة الموحية بالتشظي والغضب ضد المستعمر: (تبدَّى على سماه اغبرارٌ/ شاحب الوجه أقتم الجنبات، مِحَناً ذقتها مُضاما كقَومي، يزرعون الظلام بين جبال النور، نفسي جمرةٌ وقلبي لهيب، وأنين الحياة وهو جريح، فظائع المنكرات... إلخ).

وعلى الضفة الأخرى يأتي معجم العزة والكرامة ملهما للشاعر وللمتلقي (وانعتاق الوجود ألهم نفسي؛ فيه ألف وألف ألف انطلاق؛ أيها العيد إن ذكراك رمز؛...)".

وتضيف "هذا المعجم ذي السمة التقابلية درامية يأتي لينسف صفة الجلال عن المستعمر ويلصقها بالشعب الموريتاني ذي الحضارة العربية الإسلامية التي لا تستكين".

وترى النجاح أن هذه القصيدة "ألهمت الفنانين وعلى رأسهم الفنان الحضرمي ولد الميداح، الذي كان أول من شدى بها وكنتُ قد تلقيتها بصوته الشجيّ، كذلك كنت أول من درسها في المدارس الموريتانية، وقد علمتْ وزارة التعليم بذلك فورا، فقررتْ معاقبتي وأرسلت إلي بأحد أفضل المفتشين ومن حسن ظني أنه كان طيبا وعالما باللغةِ وآدابها ومن أكثر الناس تطلعا إلى تعليم أفضل".

ولكن، قصيدة "فرحة العيد" سوف تعبرُ الفيتوهات السياسية والحصار التربوي، لتصبح من مقررات التعليم، كغيرها من أعمال الشاعر أحمدُّ ولد عبد القادر، التي أفرحت الموريتانيين وألهمتهم لتتحول إلى عطر أبدي للذاكرة الوطنية.

 

 

القصيدة

 

قصة شعب (فرحة العيد)

 

فرحةُ العيـدِ أيقظـتْ ذكرياتـي

من صميمي وحركتْ خطراتـي

حول ماضٍ عشناهُ حزناً ودمعاً

وانتفضنا منه انتفاض الكمات

حول ماض يعطيكَ قصةَ شعـب

عبـق بالفخـار والمكرمـات

زاره عقبـةُ المجاهـد قـدمـا

حاملاً ديـن أفضـل النسمـات

وأنتمى بعـد ذا لقيـس وذُهـل

وقريـش العـلا وسعـدِ منـاة

عاش الدهر يصطفيـه ويحمـي

عـزه بالطمـوح والمعجـزات

كلمـا دارت الـقـرونُ تــراه

مستنار الجبيـنِ صلـْب القنـاة

كلمـا درات الـقـرون تــراه

يرضعُ العزَّ من زمـان مـوات

بينما كـان هكـذا فـي الزمـان

يرفلُ الحظُّ حولـه فـي أنـاة

إذ تبدَّى علـى سمـاه اغبرارٌ

شاحبُ الوجـه أقتـم الجنبـات

وأتـاه المستعمـرون فـلا أهـ

ـلا ولا مرحبا بهم مـن طغـاة

يزرعون الظلام بين جبالِ الـنـ

ـور حتـى تُحـاطَ بالظلمـات

ويشيْـدون كـلَّ قصـر منيـف

من محاصيـل للجيـاع العـراة

ويعيثـون بـالأيـادي فتلـقـى

كـل قيـد ملـطـخ الحلـقـات

محنـا ذقتهـا مضامـا كقومـي

خانعـا تحـت وطـأة النكبـات

هائمـا كالصـدى تلقفـه الأعـ

ـماقُ أو كالأحـلام والخلجـات

نفسـي جمـرةٌ وقلبـي لهيـب

فـي لهيـب تمجُّـه زفـراتـي

وأنيـنُ الحيـاة وهـو جـريـح

بـفـؤادي مقـطـع النـبـرات

فيه ألف وألـف ألـف انطلاق

حائـرٍ بيـن زحمـة النبضـات

وانعتاق الوجـود ألهـم نفسـي

حكمـةً قلتهـا بذاتـي لـذاتـي

ليـس فـي عـالـم الـعـذاب عذابٌ

مثلَ خنق الحياة في ذي الحيـاة

ما كفى الظالمين خمسـون عامـا

من ضياع الحقـوق والحريـات

ما كفاهم حـز الرقـاب جُزافـا

ما كفتهـمْ فظائـع المنـكـرات

لم يرعهـم إلا سواعـد شعبـي

رفعت مـن ثمـار رأي الثقـات

شعلـة كالـدم المثـار تلظـّى

في احمرار جهنمـيِّ السمـات

حيث كان الجهاد بحـر هـلاك

عبـرتـه أقدامُـنـا بـثـبـات

واستقلت بــلادنـــا وانتصرنا

باتحاد الصفـوف والجبهـات

واعتمدنا علـى الشبـاب فأحيـا

دورنـا فـي تجـاوز العقبـات

وفهمنـا أن النضـال ســواه

كطعـان بالرمـح دون شـبـاة

أيهـا العيـد إن ذكـراك رمـزٌ

لنهوض الشعوب وبعد السُّبـات

قد ملأت الصدور أمنـا وبشـرا

وأنـرْت الوجـود بالبسـمـات

فاتسم بالخلـود وألبـس حـلاه

سوف تأتي قهرا وتاتـي وتاتـي

سوف نعطيك لا محالـة معنـى

جئت من أجلـه ربـوع البـداة

سوف ندني إليك كـل المعانـي

ونوازي موصوفهـا بالصفـات

سوف نعطي الجهال علما ودينـا

ورثـوه عـن الجـدود الهـداة

سوف نعطي الجياع خبزا ونسقي

ظمأ الأرض بالمعيـن الفـرات

أنت عيدي إن كانَ هـذا وإلا

لست عيدي ولست عيـد لداتـي

أنت عيدي إن كان هذا... وإلا

لست عيدي فأنت عيد الغزاة

فانعتاق الوجـود ألهـم نفسـي

حكمـة قلتهـا بذاتـي لـذاتـي

ليس في عالـم العـذاب عـذاب

مثل خنق الحياة في ذي الحيـاة.

 

 

 

 

سوف نحميـك بالدمـاء فترقـى

لامعـا فـي مواكـب النيـرات

 

 

فرحةُ العيدِ أيقظتْ ذكرياتي

من صميمي وحركت خطراتي

حول ماضٍ عشناهُ حزناً ودمعاً

وانتفضنا منه انتفاض الكمات

حول ماض يحكيك قصة شعب

عبق بالفخار والمكرمات

زاره عقبة المجاهد قدماً

حاملاً دين أفضلِ النسمات

عاش والدهر يصطفيه ويحْمي

عزَّه بالطموح والمعجزاتِ

وانتمى بعد ذا لقيس وذهل

وقريش العلا وسعد مناة

يبعث العلم والثقافة نورا

نابعا من مناضليه الأباةِ

قد ملأت الصدور أمناً وبشراً

وأنرْت الوجود بالبسمات

فابتسمْ للخلود والبسْ حلاهُ

سوف تأتى قهراً وتأتى وتأتي

وأنت عيدي إنْ كنت هذا وإلا

لسْت عيدي ولسْت عيدَ لداتي

سوف ندنى إليك كل المعاني

ونوازي موصوفها بالصفاتِ

سوف نُعطى الجياعَ خبزاً ونسْقى

ظمأ الأرض بالمعينِ الفرات

سوف نعطى الجهال علما ودينا

ورثوه عن الجدود الهداة

فانعتاق الوجود الهم نفسي

حكمة قلتها بذاتي لذاتي

ليس في عالم العذاب عذابٌ

مثل خنق الحياة في ذي الحياة.

 

__________

[email protected]