عش في القمة..! (قصة قصيرة)

 

 

المختار السالم

[email protected]

 

في كل يوم يخيل له أنه يصعد الجبل، وأن أصواتا تناديه بالصعود إلى القمة.. أصوات تسري في دمه كما يجري الماء في الإسفنج.. غير أن المشكلة تمثلت في ازدياد طول الجبل كل يوم.. يصبح الجبل أطول مع إِشراقة كل شمس.. وبالتالي عليه أن يزيد في سرعته باستمرار لعله يدرك القمة البعيدة.. المكان الذي ظل ملعبا للنسور عبر حزمة من الحقب لم يأت فيها شخص واحد بخبر عن قمة هذا الجبل..

 حدثته نفسه بأن لهذه القمة أسرارا عظيمة قد تكشف يوما ما.. جميع الذين وصلوها سابقا لم يعودوا منها، كان آخر هؤلاء قبل سنتين عندما وصلت سائحة نرويجية قبل الغروب وأخذت تصعد سفح الجبل حتى توارت، وما تزال أمتعتها محفوظة عند المخيم المضروب قرب سفح الجبل..

إنه يريد أن يصعد بأي ثمن.. مهما كانت النتائج التي ليس من بينها العودة للمخيم... قيل إن فوق القمة مدينة من الأعاجيب لا يخرج منها من دخلها، وقيل إن هناك نسرا عملاقا يبتلع كل الواصلين، وقيل إن هناك عفاريت كثيرة تحرس كنوزا لملكة قديمة انتحرت على القمة بعد أن اكتشفت خيانة زوجها، وقيل،  وقيل، وقيل.. لكن أيا من حقائق هذه القمة لم يعرف.. ومع ذلك يبدو أنه مصمم بكل ما أوتي على أن يصعد ولا يعود..

تذكر أنه يملك كل شيء.. أطفالا وزوجة جميلة وثروات ومكانة هامة في المخيم.. الشيء الذي لا يملكه هو هذه القمة.. قرر أن يبيت ليلته في المكان الذي وصله حتى إذا كان الصباح ازداد الجبل من تحت المسافة التي قطعها.. بهذه الطريقة يمكنه أن يصل القمة وعندما يصل يكتشف كل شيء وهو وحظه.. وضع رأسه على صخرة مدببة ونام.. كان يشعر بالجوع والعطش والتعب.. نام طويلا..

أشرقت الشمس وبدأت تحرق جلده، فشعر بالحياة تدب في جسده، جلس وهو يمسح عينيه المغمضتين، حاول فتحهما ولكنه لم يستطع، حاول مرة أخرى ونجح، لم يصدق نفسه.. إنه فوق القمة.. نظر ليتأكد فرأى المخيم كأنه سرب طيور تحط في استراحة على الأرض.. لم ير شيئا وهو يسير على القمة..

الأرض خالية، جرداء إلا من أعشاب قليلة مترامية هنا وهناك.. وعين ماء تسيل، لم يجد أي آثار لكائن حي، ولا بقايا لآلات.. انتهى سحر القمة..

عاد يفكر بنفسه وكيف يعود للمخيم بهذه النتيجة المحزنة.. سيتخذونه سخريا.. سيقولون إنه لم يصعد القمة.. صرخ بأعلى صوته، لوح بيديه، تأكد أن أحدا لا يسمعه ولا يراه.. النتيجة الحتمية هي العودة والقول بأنه كان في جهة أخرى..

فجأة تحركت الأرض تحت أقدامه، سمع أزيزا يشبه أزيز النحل، وأصواتا مختلطة لكائنات مختلفة.. شعر أن اللحظة حانت.. هذه أسرار القمة.. أغوال، أو نسور، أو عفاريت.. أو لا يهم.. إذن من هنا مات الذين وصلوا وتركوا أمرهم لغزا لا يحل...

ازدادت الأصوات ارتفاعا.. خيل إليه أن برقا لمع.. رأى الماء يزداد جريانا من العين.. رأى الأعشاب القليلة تتحول إلى حشائش يابسة، ثم تعلوها الخضرة وتطول لتصبح أشجارا فارعة تتدلى منها الأعشاش، وتسقط منها شظايا البيض المفقس..

شعر بلمسة حانية على كتفه، التفت مرتاعا ليجد امرأة شقراء تبتسم في هدوء.. تأكد أنها هي، ما تزال كيوم وصلت هنا قبل سنتين، حتى “الميني جيب” الأخضر ما يزال هو.. مدت إليه يدها وجذبته بعنف، وضعت شفتيه بين شفتيها وقبلته بحرارة... قالت وهي تلفح وجهه بأنفاسها الحارة: “أنا القمة.. كنت أعرف أنك سوف تأتي.. انتظرتك سنتين.. وكنت مستعدة لانتظارك طول العمر”.. أراد أن يتكلم ولكنه لم يشعر بلسانه.. ربما أكلته.. ربما تيـبّس وجف فيه نهر الكلام.. ربما هذه صورة لبعض ألغاز القمة.. إنه لا يعرف.. ويشعر بالبرد والحرج.. أحس أنه في متاهة مغلقة.. تيقين أنه لن يعود ولن يعرف..

فجأة بدأت رؤوس الأشجار العالية تنعطف نحوه.. اقتربت من وجهه كأن الأفق تحول إلى غابة.. كان الأقرب إليه غصن أخضر عملاق يتدلى منه عش كبير، اقترب شيئا فشيئا حتى لامس وجهه ورأى الأفراخ من فتحات التهوية الصغيرة داخل العش.. عش مبني من أشواك تم رصها بعناية.. وحدها الطيور تعرف كيف تبني من الشوك مسكنا ناعما..

حفته الشقراء من الخلف وضمته إليها بينما تحاصره الغابة من الأمام، لمس بشدة حرارة جسمها تسري إليه كما يسري الماء في الإسفنج.. وهكذا فتح عينيه واستيقظ على سكان المخيم وقد صعدوا إليه في مكان نومه.. بينما ما تزال القمة هناك.