حديث عن ملهمتي
تنظر الفتيات إلى الملهمة بوصفها صاحبة ذلك التأثير الغامض الخفي الذي تمثّله بأفعالها وأقوالها ومواقفها النيرة الموفقة والمقبولة اجتماعيًا، مما يثير في نفوسهن الإعجاب والمحبة، ويولّد لديهن حوافز قوية تدفعهن للعمل مثلها؛ وقد يكون ذلك بتوجيه مباشر أو غير مباشر.
ومن أمثلة ذلك التوجيه غير المباشر، ذلك اللقاء عن بُعد الذي جمعني بخالدة الذكر الشاعرة والأديبة والكاتبة الراحلة خديجة منت عبد الحي رحمها الله، في العطلة الصيفية لعام 1989، وأنا على أعتاب دخول المرحلة الإعدادية.
كان الوقت الثامنة والنصف مساءً – على ما أتذكر – حين تابعتُ مع الأسرة برنامج المجلة الثقافية الذي استضاف الأستاذة خديجة منت عبد الحي رحمها الله.
عرّفتني عليها الوالدة وقالت لي: "انظري إلى هذا الزي المحتشم الذي ترتديه زميلتي خديجة، إنه لباس محترم ينبغي على كل فتاة ستدلف إلى الإعدادية أن تتخذها قدوة وترتديه."
تابعتُ باهتمام تلك المقابلة التاريخية لأنها بدأت بالحديث عن طفولتها وسنواتها الأولى في الإعدادية. ومن بين الأجوبة التي استوقفتني ولم أنسها حتى اليوم، تلك المتعلقة ببداياتها مع المطالعة ونوعية الكتب التي استهوتها قبل أن تدلف إلى المدرسة.
ذكرت ملهمة الأجيال خديجة أنها بدأت محاولة الكتابة في سن مبكرة، أعتقد أنها قالت: "في سن السابعة"، وإنها قبل أن تبلغ العاشرة كانت قد اطلعت على نفائس الكتب التي كانت تزخر بها مكتبة والدها العلامة عبد الحي ولْ انتاب. ومن تلك الكتب التي استعرضت في اللقاء التلفزيوني أتذكر: لسان العرب، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، يتيمة الدهر، الأغاني، والمستطرف في كل فن مستظرف.
ثم أضافت أن ميولها للكتابة، وخاصة تلك التي تحتوي على خيال أدبي مجنّح، جعلتها تطالع باستمرار للأدباء والكتاب من القدامى والمعاصرين، حيث أكملت – وهي في مرحلة الإعدادية – كتب مقامات الحريري، وكليلة ودمنة لابن المقفع، والحيوان للجاحظ، ورسالة الغفران للمعري، والأيام، وعصا الحكيم، وكتبًا أخرى لم تسعني ذاكرتي الصغيرة آنذاك لضبطها.
ثم تحدّثت عن عاداتها في الكتابة ولكن لقصر الفهم وحداثة السن لم أتمكن من الإحاطة بجوانب إجابتها عن خطها التحريري ومنهجها في الكتابة.
كل ما تمكنتُ منه في تلك الليلة هو أنها تملك كُنّاشًا يرافقها دائمًا في الحل والترحال، تسجل فيه الأحداث وتكتب خواطرها وقصائدها.
وفي كلمتها التوجيهية الأخيرة قبل نهاية اللقاء، أذكر أنها نصحت الناشئة بمطالعة الكتب المفيدة والاهتمام بزيادة الرصيد اللغوي والاستعانة بالمعاجم في فهم اللغة العربية.
ولأن اكتساب السلوك من خلال القدوة من أكثر طرق التعلم تأثيرًا وسهولة – إذ إن النفس بطبيعتها ميّالة للتقليد، ويزيد هذا الميل في مرحلة المراهقة – فقد قررتُ من تلك المقابلة الانتقال من مطالعة كتب الأطفال "ألغاز المغامرين الخمسة، ورجل المستحيل، وأميرة الثلج البيضاء وغيرها" إلى الكتب التي ذكرتها ملهمة الأجيال خديجة منت عبد الحي في مقابلتها التلفزيونية، وقررتُ من ذلك اللقاء التطفل على الكتابة. ولم أكن الوحيدة، فهناك العشرات من بنات جيلي؛ فلم يكن يخلو أي فصل من إعدادية وثانوية البنات – حيث أكملت تعليمي الثانوي – من متأثرات بخالدة الذكر خديجة، تحمل كلٌّ منهن دفترًا صغيرًا على شكل مذكرات نكتب فيها الخواطر ونحاول تقليد ملهماتنا من أمثال خديجة منت عبد الحي رحمها الله، التي كان لها عمود أسبوعي في بعض المجلات والجرائد: الشعب، المراقب، الموكب الثقافي، الزمان، المحيط وغيرها. وكنا نقوم بتبادل تلك المجلات والجرائد كأننا نقوم بعملية صرف بين العملة الصعبة والأوقية لما لذلك من أهمية عندنا في ذلك الوقت.
كما يعود الفضل إلى خالدة الذكر خديجة منت عبد الحي في حصولي على أعلى درجة في مادة الفيزياء والكيمياء في تاريخي مع هذه المادة. كان ذلك في دجمبر 1995، حين قررت إدارة ثانوية البنين إجراء اختبار تجريبي لطلبة باكلوريا العلوم الطبيعية لتحديد مستواهم، وقررت من الناحية المنهجية أن يكون أصعب من امتحان الباكلوريا النهائي، لتدريبنا على التعامل مع مادة الفيزياء وخصوصًا كيفية العثور على "معامل لامدا" سيّئ الصيت.
فلما تم توزيع الأوراق علينا، تعالت أصوات الاستياء من طلبة اشتهروا بإتقان هذه المادة. قرأت الموضوع عدة مرات وفهمت أنني أمام أمرين أحلاهما مر: إما إرجاع الورقة فارغة، أو الاختلاس الذي أفتى بعض "متفيقهة" الطلبة بجوازه للضرورة القصوى. وكانت من العادات التي عوّدتنا عليها الوالدة أن ليلة الامتحان لا نراجع فيها المواد، فخصّصت تلك الليلة لقراءة مقابلة مع ملهمة الأجيال خديجة عبد الحي في إحدى الجرائد – لا يحضرني اسمها الآن – فأمسكت القلم وكتبت:
المادة: الفيزياء والكيمياء
الموضوع: جنون قلم
"أستاذنا الجليل،
لقد قرر غير السيد المتعب لغيره "لامدا" أن يتجاوز كل حدود الثقل ويحطم كل قواعد الأخلاق والمرونة والمروءة، وأن يتحصن في قمم الجبال الشاهقة ذات الطرق الوعرة والخطيرة على العقول والأذهان، والتي لا يمكن لغير نيوتن وتاليس وبيتاغور وأمثالهم أن يسلكها ويتمكن من حساب معامله. وقد تهيّب فرسان الفيزياء والرياضيات خوض غمار معركة البحث عن معامل لامدا، وقرروا الانسحاب، وأعلنوا أن من ليس باستطاعته الوصول إلى النجوم فلن يعثر عليها. ثم تعالت الصيحات من أرجاء الفصل: "رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ"، و*"وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ"، ولم تُجْدِ فتوى فقيه الفصل بجواز الاختلاس نفعًا، وصار كل طالب يقول: "نفسي نفسي"، و"إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب" وتوالى انسحاب الطلبة والطالبات.
ولما رأيت لامدا يجندل جعفر، وينادي معامل لامدا: يا يحيى! التفتُّ إلى قلمي قائلة: ما رأيك لو أتممنا معًا ما كنا نقوم به ليلة البارحة من كتابة خاطرة حول مقابلة خديجة منت عبد الحي الأخيرة؟ فهو – والله – أروح للنفس، وأجلى للكدر، وأسلم للعقل. فانطلقت خلفه لنركب الحافلة التي ستذهب بنا إلى "موقف الحافلة" ذائع الصيت، حيث حروف أديبتنا التي كانت تطلق عليها "حروف شاحبة" تواضعًا. فركبنا معًا الحافلة، ووجدنا ركابها من قصائدها: أنشودة الصحراء، حواء، أنشودة الفتاة، قصيدة أمي، قصيدة العيد، وغيرها من القصائد التي كانت تُنشر دائمًا في الركن الأدبي من المجلات.
ابتسم القلم قائلًا: على الأقل يمكننا التفاهم مع قصائد ملهمتنا خديجة وتحليلها، فنحن في بلد المليون شاعر وشاعرة، ولدينا المنهل. وطفق يمر على كل قصيدة في مقعدها ويأخذ منها ويضع في سلّته، حتى جمع لنا ما يكفي لملء صفحتين من ورقات الإجابة
انتهى الاستشهاد من ورقة الإجابة، فالخاطرة طويلة.
قمت بتسليم ورقتين من أوراق الإجابة للأستاذ الذي قال لي متعجبًا: ما هذا؟
فقلت له: هذا جنون القلم.
عند توزيع النتائج فوجئت بأنني حصلت على خمس عشرة من عشرين، وهو أمر مستغرب على مثلي في مادة الفيزياء. فقال الأستاذ: لا تستغربي؛ لقد استشرت صديقًا لي من أساتذة الأدب واللغة وعرضتُ عليه جنون قلمك، فقال إنك تستحقين العلامة كاملة احترامًا للرائدة خديجة منت الحي، وتشجيعًا لعدم الاختلاس، وللفكرة الجنونية. ولأنه كان لا بد لي من معاقبتك على هذا الخروج عن الموضوع، فقد وجدتُ في رداءة خطك سبيلًا لخصم خمس نقاط من الدرجة الكاملة.
فإذن هذه الدرجة قد حصلتِ عليها من بركة الأستاذة خديجة منت عبد الحي، ولا تعودي لمثلها أبدًا.
رحم الله ملهمة الأجيال وصانعة المحتوى بحق: الشاعرة والأديبة والكاتبة خديجة منت عبد الحي.
_____
(مقال منشور في جريدة الشعب دجمبر 2022)
